نقلت صحيفة «الديلي تلغراف» البريطانية أن السيد توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني السابق، قد وقع صفقة مع الحكومة الكويتية بأكثر من مليون دولار، وذلك لتقديم الاستشارة لها عن الرؤية المستقبلية للحكم السليم عبر المؤسسة التي أنشأها بلير الشهر الماضي في لندن (توني بلير أسوسيتس) لتقديم الاستشارات السياسية والاقتصادية، لتكون الحكومة الكويتية بذلك أول المتعاقدين مع مؤسسة بلير!
في البداية لابد من الإشارة إلى أن الاستفادة من الخبرات المتقدمة أمر مهم وضروري في سبيل تحقيق التطور السليم على الصعد كافة عبر الاستشارات التي يقدمها أصحاب الخبرات نتيجة لخلاصة أفكارهم وتجاربهم، فلا أحد يجادل في أهمية الاستفادة من الخبرات بغض النظر عما إذا كانت «مليونية» أو أقل أو أكثر! لكن السؤال الذي نود تسليط الضوء عليه في هذا السياق: هل السيد توني بلير الخبير الاستشاري المناسب لكي تتعاقد معه الحكومة الكويتية وبهذا المبلغ الضخم؟
للإجابة عن هذا التساؤل، علينا أن نعود قليلاً إلى الوراء لكي نستعرض جانباً من تاريخ السيد توني بلير السياسي من «باب تنشيط الذاكرة» لمن «نسي» أو «تناسى» أدوار ومواقف بلير السياسية السابقة، لنرى ما إذا كان السيد بلير مؤهلاً لتقديم الاستشارات المناسبة للحكومة الكويتية عن الحكم السليم أم لا؟
فبعد عشرة قضاها رئيساً للوزراء في بريطانيا غادر بلير منصبه بعد أن أجبره الرأي العام البريطاني على التنحي مبكراً قبل عامين من موعد الانتخابات التشريعية، إذ أظهرت استطلاعات الرأي في بريطانيا انخفاضاً حادا في شعبيته وصلت إلى ما دون 20 في المئة، حتى بات مصدر التهديد الأول لـ«حزب العمال» الذي أظهرت استطلاعات الرأي كذلك انخفاض شعبية الحزب إلى أدنى مستوياتها منذ العام 1983! تقول آلان كويل، مراسلة «نيويورك تايمز» في لندن: «بعد مرور عقد من الزمن على صعود (حزب العمال) إلى السلطة، وفي الوقت الذي يستعد فيه بلير لمغادرة منصبه وهو ينوء بأعباء حرب غير شعبية وانحدار كبير في معدلات شعبيته أصبح شعار الحزب الذي كان براقاً في السابق نغمة نشاز خارجة عن السياق. والسبب أن الأمور في نظر العديد من النقاد لم تتحسن، كما أعلن بلير في وعوده، بل تراجعت إلى الوراء»!
السياسة الخارجية لـ بلير كان لها نصيب الأسد وراء تنامي حدة السخط الشعبي في بريطانيا ضده، خصوصاً تلك المتعلقة بتحالفه الاستراتيجي مع الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، والتي جعلته يدفع ثمناً سياسياً باهظاً إلى حد وصفه في وسائل الإعلام البريطانية بأنه «كلب بوش المدلل»! فعلى صعيد الملف العراقي، نجد أن هزيمة السياسة الأميركية والبريطانية في العراق قد أضرت بلير كثيراً بعد سلسلة الأخطاء الفادحة التي ارتكبها مع الرئيس السابق بوش، ابتداء من قرار غزو العراق وصولاً إلى تردي الأوضاع الأمنية وتفجر الصراعات المذهبية. فالحرب على العراق كانت عاملاً أساسياً أفقد قطاعاً واسعاً من البريطانيين الثقة في بلير، كما يقول تيموثي جارثون، أستاذ الدراسات الأوروبية بجامعة أكسفورد البريطانية، في مقاله المنشور بصحيفة «الواشنطن بوست»، ذلك بأن «هناك نقطة سوداء كبيرة تلطخ سجل السياسة الخارجية لبلير، وهي تتمثل في العراق. فرغم إصرار بلير على أن التاريخ وحده سيصدر حكمه على التجربة العراقية، فإنه بإمكاننا استباق التاريخ والجزم بكل ثقة بأن العراق كارثة محققة. فالفشل في التخطيط لأوضاع ما بعد الغزو وترتيب الأمور، كان خطأ مشيناً بحق بلير وبوش»!
أما على صعيد قضية «مكافحة الإرهاب»، فنجد أن السياسة التي اتبعها بلير إزاء هذا الملف أدت إلى تزايد حدة العنف والإرهاب، وليس العكس كما كان يدعي بلير! والدليل على ذلك أنه عرّض بريطانيا إلى هجمات إرهابية في مترو وشوارع لندن، كما جاء في تقرير لـ«معهد أكسفورد للأبحاث» (لندن) والذي ذكر أن «الحرب التي شنها بلير على الإرهاب زادت من حدة العنف والإرهاب وليس العكس»! وهو ما ذهب إليه أيضاً التقرير الذي أصدرته لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم البريطاني، والذي أكد على أن «تنظيم القاعدة مازال يشكل تهديداً خطيراً وقاسياً لبريطانيا بسبب سياسة بلير الخاطئة في مكافحة الإرهاب»! والأمثلة على فشل سياسة بلير في مكافحة الإرهاب كثيرة. لكن ما أورده تقرير «مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية» بخصوص تزايد جرائم الكراهية والتعصب ضد المسلمين في بريطانيا بنسبة 600 في المئة، بسبب سياسات بلير، خير مثال على فشل هذه السياسة التي اعتمد فيها بلير على استيراد السياسة الأميركية في مكافحة الإرهاب، والتي قامت على التعاطي مع هذه القضية الشائكة من منظور أمني بحت!
والحال لم يكن بأحسن منه تجاه موقف بلير من الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف العام 2006 عندما تجلت تبعية بلير للولايات المتحدة برفضه المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، الأمر الذي كان يعني «عملياً» إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل لمواصلة عدوانها الإجرامي على لبنان، وهو ما يعني اشتراك بريطانيا إلى جانب أميركا في العدوان الذي شنته إسرائيل على لبنان في يوليو 2006!
أما «القشة التي قصمت ظهر البعير» وزادت من حدة السخط الشعبي على بلير، فكانت بسبب موقفه الذي أثار غضب البريطانيين، عندما أمر بوقف العمل في لجنة التحقيق المستقلة ذات الصلة بموضوع عمليات الفساد التي أحاطت بإحدى صفقات الأسلحة الضخمة مع دولة خليجية!
إذاً بعد هذا السرد السريع لبعض المحطات المهمة في تاريخ السيد توني بلير السياسي يحق لنا أن نثير هذه الأسئلة أمام الحكومة الكويتية بعد خبر توقيعها للعقد المليوني: هل بالإمكان اعتبار الشخص الذي تسبب في تراجع شعبية حزبه إلى أدنى مستوى لها منذ عقود بسبب سوء إدارته بأنه مؤهل لتقديم استشارات إصلاحية عن الرؤية المستقبلية لحكومتنا أو حتى لأي حكومة أخرى؟ وهل من المنطق أن شخصاً تعرض إلى أكثر من أربعين استجواباً في البرلمان البريطاني بسبب إدارته وفقد أكثر من 80 في المئة من شعبيته أن يقدم الاستشارات المناسبة للحكم الكويتي السليم؟ وأخيراً، هل من الحكمة الاستعانة بشخص فشل فشلاً ذريعاً في التصدي إلى العديد من الملفات الدولية سواء في أفغانستان أو العراق أو فلسطين المحتلة، أن يكون مؤهلاً لتقديم استشارات لإصلاح الحكومة الكويتية؟
كلمة أخيرة: إن كان التعويل على الإصلاح موكول إلى بلير وأمثاله، فلا أمل يرتجى من المستقبل!
عمار تقي
كاتب كويتي
[email protected]