| سعاد العنزي |
العدم والتلاشي وفقدان لذة الحياة والجديد الممتع المشوق والشائق، كلها أفكار تدور حولها قصة «حياة صغيرة خالية من الأحداث» للقاصة باسمة العنزي، انطلاقا من خلفية فكرية وفلسفية مدارها هو العدمية والعبث وموت القيم الجميلة التي أعلنت موت الإنسان، ونهاية التاريخ والحياة، وهذه الإشكالية عايشها أدباؤنا وفلاسفتنا من قبل وتجلت منذ بواكير الحياة الأدبية في العصر الجاهلي.
فامرؤ القيس يخاطب الدهر شاكيا من قسوته، ورتابته فتساوى الليل والنهار لديه فيقول:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي... بصبح وما الاصباح منك بأمثل
واستمرت مع الأدباء حتى عصرنا الحالي، فأصبحنا أمام نصوص سردية وشعرية ترصد لعدمية وعبث الحياة، وألا شيء جديد يقتحم عوالمك، فالرتابة، والملل، واليومي المألوف والمعاش، كلها ثيمات شكلت نص القاصة باسمة العنزي «حياة صغيرة خالية من الأحداث»... قصة قصيرة ترصد في عمق وبصيرة ثاقبة أدق التفاصيل اليومية والاعتيادية، لتؤكد على فكرة اللا جديد في الحياة، مما يجعل الإنسان المعاصر يضيق ذرعا بهذه الرتابة التي تفضي إلى النهاية، وكأن عصر الآلة والاختراعات العلمية، أوفر حياة مادية مترفة، وسلب من الإنسان ما هو أجمل وأعمق، وهو سعادة الروح.
فهل كانت أزمة الساردة في القصة، تشبه أزمة بطل قصة «الشقاء» لانطوان تشيخوف، الذي كانت كل معاناته في انه لا يجد في عالم الإنس من يسمع أناته وشكواه، فيهرب إلى عالم الحيوان، شاكيا إلى حصانه، عله يجد الرحمة في عالم الحيوان، ما دام البشر تحولوا إلى آلة صماء مفرغة من عوالم الإحساس والرحمة.
هل قصة «حياة خالية من الأحداث»، كانت تدور حول إشكالية من الإشكاليات التي تعج بها العوالم الإنسانية، حول أزمة غربة المثقف في عالم فقد جماليته، أم إنها إشكالية ذات إنسانية كان يحدوها الطموح فتبدد في ليلة ظلماء، مما أفرز ذات فاقدة للأحلام والطموحات، تتراقص على عوالم الألم إذا ما تذكرت ما كانت عليه؟!
كل هذه الأسئلة مدارات للمساءلة في قصة «حياة صغيرة خالية من الأحداث»:
استفزازية العنوان
العنوان بوصفه أول عتبة من عتبات النص، والمفتاح الدلالي في قراءة النص، والذي يعول عليه في اختراق بنى النص واستنطاق مضامينه، كان على الرغم من استفزازيته للقارئ، بأنه يقدم له حياة صغيرة خالية من الأحداث، فإنه يكون من نمط العناوين المباشرة التي تقدم دلالة ناجزة يفهمها القارئ لأول وهلة من القراءة.
ولكن استفزازيته تتعين عند البحث عن سبب كون الحياة صغيرة ومالها خالية من الأحداث؟ فكل امرئ يرى تضخم ذاته وحياته سيصطدم بآلية حياته ورتابتها أمام عالم المادة. عندما يقرأ القصة وغيرها من الأعمال الأدبية التي تنحو هذا المنحى.
العنوان يتكون من جملة اسمية خبرية لعب بها التنكير والتعريف دورا كبيرا في فهم كنه دلالة العنوان، لأن الإشكالية التي تطرقت لها القاصة هي إشكالية امرأة نكرة مجهولة عاشت حياة خالية من الأحداث، فلا جديد تحت الشمس، ولا أحداث كبيرة تحرك حياتها، فلا اسمها ذكر في القصة ولا اسم ابنها، ولا من يعيشون من حولها، لتؤكد على إنهم نكرات ليس لهم وجود أو أثر ملموس، والأحداث تحيل القارئ على فضاء من الأسئلة، ما الأحداث التي تنشدها بطلة القصة، هل تنشد أن تكون شخصية مرموقة ومشهورة، لتحرك الساحة الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية في البلاد، أم المقصود، الأحداث العادية اليومية، من حركة تلقائية طبيعية يقوم بها كل كائن حي؟
الأرجح أن القاصة كانت تقصد بالأحداث، الأحداث العظيمة التي تحرك الفكر والثقافة السائدة، الأحداث التي توازي آمال عظام كانت تعيشها الشخصية في الرواية، والدليل على ذلك هو ملء النص بالأفعال: (تستيقظ، تسترجع، تتخلص، تنهض، تتسلل، تفتح، تبدو، تنسل، يذهلها...).
جميعها أفعال، ولكنها تقترن بحياتها اليومية المعاشة التي لم تكن تحلم بها.
شخصيات مهمشة تدور في فضاء العدمية
مثلما كان العنوان يتحدث عن حياة خالية من الأحداث، فإن الشخصيات التي هي أحد مكونات القصة، مهمشة فاقدة لجدواها، وليس لها أثر ملموس، تتحرك في فضاء النص ولكن دونما حركة، دونما فاعلية، لم تفعل سوى الصراخ على مقصلة الذاكرة والغياب.
الشخصيات في القصة جميعهن نساء ماعدا شخصية ابن الشخصية المحورية المرأة، التي تحاول جمع خيوط الذاكرة لتشكل وعيها، فلا تجد سوى العدم والضبابية والتهميش، وصغر الأشياء من حولها، فابنها لم تذكر اسمه فقط تنعته بقولها صغيرها، أما دائرة النساء من حولها فهن، نساء غير فاعلات على الرغم من حركاتهن في النص، وكانت شخصية العجوز، في بداية السرد، محركا للسرد، وهو سؤالها للشخصية الأساسية، التي لا نستطيع رسم ملامحها، سوى بالإشارة إلى كونها الشخصية الوحيدة التي يدور حولها النص، فسؤال المرأة العجوز يحرك السرد، ليكون محفزا من محفزات الحكي وتداعي الحكاية:
«لو هيئ لك أن تعيشي حياتك مرة أخرى، هل تعيشينها بالطريقة نفسها؟ سألتها العجوز بنبرة درامية.». (مجموعة «حياة صغيرة خالية من الأحداث»، ص21).
ليبدأ بعدها السرد، حول حكاية المرأة التي كانت في يوم من الأيام تحلم أن تكون لها بصمتها الخاصة في الحياة، في بدايات تكون الحلم وتشكله، في مشهد مكثف قصير يرصد روح المفارقة بين ما هو كائن وما هو مرتقب ولو في عالم الحلم، بين بدايات الحكاية وبين النهايات، فهي تسترجع عبر سرد استرجاعي:
«تتبين وجه مدرسة اللغة الانكليزية في مدرستها الثانوية، كانت تتوقع منها الكثير وتنبأت لها بدرب بدا الآن سرابا، خجلت أن تقترب منها وتسرد لها باختصار واقعها الذي لا يتجاوز بضع عبارات لا تحوي أي إنجاز». (المجموعة، ص 25).
فهي كانت تطمح في يوم من الأيام أن تكون شيئا فاعلا وصانعة للأحداث، ولكن أحلامها تلاشت أمام سطوة الواقع. وهنا تكمن دلالة أخرى للعنوان.
ومن بين الشخصيات التي تشكل فضاء النص، وتمر مرورا عرضيا، مما يعمق في الدلالة والوصول إلى قصدية القصة، إنها تسير بين مجموعة من النساء من دون أن يلتفتن إليها، وكأنها كائن غير مرئي، بين نساء يحتفلن بأنوثتهن وبالروائح الشرقية الجميلة، التي تحمل ملامح المرأة الشرقية، ولكنهن غريبات عن عالمها، عالمها الذي كانت تحلم به والذي لم يفارق مخيلتها، على الرغم من ادعائها بان أمورها تسير على ما يرام، فهي لا تعيش الانسجام والتناغم بين جموع النساء، لأن في داخلها عالما لم يتحقق، وتعاني من الألم ومخاض في الذاكرة من عدم تحققه، فـ: « ثمة أخرى بداخلها تقبع في ركن قصي، لا تكف عن العويل بين حين وآخر رافضة التقوقع والانشغال بأشياء صغيرة باتت تنسج من اهتمامها بها بيت عنكبوت مثبت على بابها». (المجموعة، ص25)
فالشخصية هنا تعيش أزمة الاغتراب النفسي الذي يعانيه الإنسان المعاصر، عندما لا تتوازن دفة طموحاته وما هو متحقق في عالم الموجودات، فتكون كذلك هذه القصة التي تنتهي بالاستعداد ليوم آخر مصحوب بالروتين الممل، راصدة لقضية الاغتراب النفسي الذي يعيشه الإنسان وهو في مجتمعه وبيئته.
ومن اللافت للنظر ان القصة من خلال اللغة السردية الشعرية قد توصلت إلى عالم الذاكرة البصرية، فكأن بالقارئ أمام مشاهد من فيلم سينمائي، يلتقط بواقعيته المفرطة صورا من حياتنا اليومية، التي نظن بجدتها، فتفاجئنا باسمة العنزي بأنها عوالم مألوفة ولا جديد تحت الشمس.
وهي بذلك مثلما وصف أحد الباحثين قصص فوزية العيوني:
«تملك ذاكرة بصرية قوية جداً، قد نسميّها بالذاكرة السينمائية لأنها من خلال الاحتفاء بالتفاصيل إنما تحاول أن توصل إليك ما تراه من مشاهد في لحظة انفلاق تلك الذاكرة البصرية. ترهق نفسها أو لا ترهقها لا أعلم في أن توصلك إلى مشاهدة تلك اللقطات السينمائية كما تُشاهدها هي، ليس ذلك فحسب، بل هي تأخذ بمقلتيك إلى تلك الجوانب المظلمة أو النائية في المشاهد وقد تغيب عنك».
* كاتبة وناقدة كويتية
[email protected]