حرارة مرتفعة في مناطق معتدلة وبرد قارس وأمطار في بلدان صحراوية
«الاحتباس الحراري» عبارة جديدة في قاموس الطبيعة... والعالم «يحبس أنفاسه» الإنسان «المتهم» الأول والغابات والبحار والكتل الجليدية «الضحية الأولى»
1 يناير 1970
08:27 ص
| بيروت - من هلا داغر |
يتساءل الناس لم هذه الحرارة غير الاعتيادية في الجو في بلد معروف بمناخه المعتدل؟ ولم هذا البرد القارس وتلك الأمطار التي لم تعهدها هذه الدولة الصحراوية أو تلك؟ ما سر هذه الأعاصير الجامحة وتلك الحرائق في الغابات؟ أسئلة وأسئلة تطرح نفسها في ظل انقلاب المناخ في زوايا العالم الأربع.
ثمة كلمات في زمننا لم تكن تتردد على مسامعنا قبل التسعينات من القرن الماضي. نسمع اليوم بـ «الاحتباس الحراري» وبـ «تغير المناخ» وبـ «التصحر» وبـ «ذوبان صفائح الجليد في القطب الجنوبي» الذي قد يغرق واشنطن، فضلاً عن عبارات أخرى.
هل الإنسان هو السبب أم الطبيعة نفسها؟ وهل للأنشطة البشرية دور في هذا التغيير أم ان للعوامل الطبيعية مساهمة في إحداثه؟ العلماء يبحثون وينقبون ويحللون ويعطون أدلة أو يطرحون فرضيات. إلا أن المؤكد أن «حبس الأنفاس» والخشية من ظاهرة «الاحتباس الحراري» لدى البشرية باتا أمراً واقعاً ومقلقاً.
ظاهرة «الاحتباس الحراري» أو احتباس الحرارة داخل غلاف الأرض الجوي ثم سخونة سطحها بصورة غير اعتيادية، طفت على السطح بقوة منذ بداية التسعينات عندما أصدرت الهيئة الحكومية الدولية للتغير المناخي «IPCC»، وهي هيئة علمية تابعة للأمم المتحدة، تقريراً رسمياً يشير إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض في شكل متنامٍ، مضيفة أن ذلك يشكل خطراً بالغاً على مستقبل البشرية، بل على مستقبل كوكب الأرض برمته.
وإذا اردنا تحديد مسببات هذه الظاهرة، فإن التقارير العلمية تفيد بأن غازات ثاني أوكسيد الكربون وبخار الماء والميثان والأوزون وأوكسيدات النيتروجين ومركبات الكلورو فلورو كربون من أهم الغازات الدفيئة التي تتسبب في الاحتباس الحراري. ورغم أن وجود هذه الغازات، خصوصاً ثاني أوكسيد الكربون وبخار الماء ضروري للمحافظة على استمرار الحياة في شكلها الحالي، إذ من دونها قد تصل حرارة الأرض إلى ما دون 15 درجة مئوية تحت الصفر، إلا أن ممارسات الإنسان السيئة وأبرزها إزالة الغابات والمناطق الخضراء وتلويث البحار والمحيطات والإسراف في حرق النفط وبقية أنواع الوقود ساهمت بطريقة وبأخرى في تفاقم هذه الظاهرة.
وتشير القياسات العلمية إلى أن الحرارة على سطح الأرض ارتفعت بما بين 0.4 و0.8 درجة مئوية خلال الاعوام الـ 150 الماضية. ولئن بدت هذه الزيادة طفيفة، فإنها كافية في الواقع لاضطراب حركة التيارات والأمواج في البحار والمحيطات، وكافية أيضاً لتغيير مسارات التيارات الهوائية وكميات السحب والثلوج المتساقطة وغيرها من العوامل المتحكمة في طبيعة المناخ العالمي. من هنا، لم يكن غريباً اقتران هذه الزيادة بارتفاع مستوى سطح البحر بين 10 و20 سنتيمتراً. كما لم يكن غريباً اقترانها بتكرار ظهور موجات الحر والجفاف، وحرائق الغابات والفيضانات والأعاصير وذوبان الكتل الجليدية والصخرية أو انهيارها وارتفاع مياه البحر لتغمر أجزاء من المدن الساحلية. وهذه علامات واضحة على تغير مناخ الأرض في صورة ملحوظة.
ولا شك في أن تداعيات الاحتباس الحراري ستتسبب في رسم خريطة جديدة للكرة الأرضية وللتوزيعات البشرية عليها، على ما يقول العلماء. هذا الأمر استدعى إجماع العالم على هدف واحد هو محاولة الحد من انبعاثات غازات الدفيئة ووقف ظاهرة الاحتباس الحراري ومصادقة نحو 141 دولة من بينها 12 دولة عربية على «بروتوكول كيوتو» وآلياته، وأبرزها ضريبة الكربون وتجارة الانبعاثات.
أما في لبنان فسجل خلال الأعوام الماضية تراجع في نسبة الأمطار فيما الثلوج التي يمتاز بها البلد باتت بالكاد تغطي قمم جباله لفترة قصيرة من الشتاء، في موازاة ارتفاع درجات الحرارة خلال هذا الفصل. ما أسباب هذه التبدلات، وهل نحن في لبنان على أبواب نوع من انواع «التصحر»؟
الدكتور رامي زريق، الأستاذ في كلية الزراعة والعلوم الغذائية في الجامعة الأميركية في بيروت، يتطرق إلى هذه الأمور قائلاً: «لا ننتظر أن تظهر نتائج تغير المناخ إلا في العام 2050 فالمنطقة تمر بتقلبات مناخية قد تكون بداية لما سنصل إليه العام 2050، لأن الأمر لن يحدث فجأة، بل في شكل تدريجي. وعلينا أن نعرف أن أعوام الجفاف مر بها الوطن العربي قبل فترات طوال. ففي القرن الثامن عشر حصل جفاف قاس جداً. وفي العام 1920 أيضاً مرت فترة جفاف قاسية لأعوام متتالية أدت إلى تدهور وضع البداوة المرتكزة على الرعي، فالصحراء هي أول منطقة بيئية تتأثر بهذا الموضوع. وفي خمسينات القرن الماضي أيضاً حصل جفاف قاسٍ».
وعن تراجع نسبة الأمطار التي هطلت حتى اليوم عن المعدل الطبيعي يقول «هذه السنة الوضع سيئ جداً، وما نشهده أيضاً هو تغير في زمن هطول الأمطار. معدل الأمطار التي هطلت حتى اليوم أقل من المعدل التراكمي للأعوام الماضية. التبدلات إذاً طويلة الأمد والتوقعات أن هذه المنطقة ستكون أكثر جفافاً. هناك أيضاً تبدلات آنية وهذه مؤذية، لأنها تؤثر في البيئة والطبيعة وحياة الناس».
لكن اللافت أن شهر فبراير أبى أن يغادر من دون أن يعوّض الكثير من النقص في المتساقطات على لبنان بسبب غزارة الأمطار وتساقط الثلوج على ارتفاع ثمانمئة متر وما فوق، وهذا ما شكّل ارتياحاً نوعاً ما لدى المزارعين.
توقعات وحسابات
ولكن ما أسباب تبدل المناخ هذا، فمن جهة هناك ارتفاع في درجات الحرارة في لبنان، وثلوج في رأس الخيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة؟ يجيب زريق: «إن التبدل في المناخ سببه تصاعد ثاني أوكسيد الكربون وغازات الاحتباس الحراري في الطبقة المحيطة بالأرض. وهذا بدأ يحدث تبدلات مناخية واحتباساً حرارياً يقود إلى رفع درجات الحرارة. نحن نعلم ذلك، لأن هناك توقعات مبنية على عمليات حسابية. في منطقة الشرق الأوسط، غالبية التوقعات تشير إلى أنها ستكون أكثر جفافاً. وما نراه اليوم في دول الخليج العربي من أمطار غزيرة وسقوط ثلوج في إمارة رأس الخيمة هو تبدلات مناخية قد تكون آنية. من هنا، يجب أن نفرق بين هذا الوضع وتغير المناخ والجفاف الطويل الأمد الذي يبدو أننا مقبلون عليه. من ناحية أخرى، هناك جفاف ناتج من أسباب اجتماعية اقتصادية. فعدد السكان ارتفع، ومن طبيعي تالياً أن ترتفع نسبة استخدام المياه وتنخفض جراء ذلك نسبة المياه الجوفية، ما يؤدي إلى جفاف المناطق. إذاً، نقص المياه يجب أخذه في الاعتبار لأنه أساسي ومهم».
هل لبنان مقبل على «تصحر» نتيجة تبدل مناخه؟ بمعنى آخر، هل سيجعل تغير المناخ لبنان صحراوياً؟ لا يحبذ زريق كلمة «تصحر» لوصف هذه الحال «لأن الصحراء حية، فيها حيوانات ونباتات متأقلمة مع جوها». ويعزو «تدهور الطبيعة والمنظومات الأيكولوجية أو البيئية عموماً إلى أسباب عدة، منها قطع الغابات، والرعي الجائر، والزحف العمراني، وعدم التعامل مع الأرض في طريقة سليمة... لا يمكننا كعلماء القول إن لبنان سيتحول صحراوياً لأننا سنصيب الناس بالذعر. إلا أننا ننبه صانعي القرار ومنفذيه الى أن بيئتنا نحو تدهور. والجفاف الذي نمر به هو أحد أسباب هذا التدهور. لا يمكن أن نعرف ما سيحصل العام المقبل، ولا يمكننا أن نتسرع ونقول أن العام المقبل سيكون جافاً. قد لا تكون كمية الأمطار المقبلة لهذا العام بنسبة كميات أمطار الأعوام السابقة، ولكن قد يكون أثرها إيجابياً أكثر، خصوصاً إذا هطلت في شكل خفيف. من جهة أخرى، يمتاز لبنان بهبة الثلوج التي تذوب ببطء، ثم تدخل جوف الأرض وتشكل الينابيع والأنهر».
ويضيف زريق: «على المدى الطويل ستصبح قسوة الشتاء أخف حدة. والاختصاصيون في موضوع تغيّر المناخ يشيرون إلى أن الطقس يميل إلى الدفء في لبنان».
ولكن إلى أي مدى يمكن السياسات الرسمية والأفراد المساهمة في تخفيف التغير المناخي؟ يؤكد زريق أن «الحفاظ على الثروة المائية من التدهور والتلوث اللذين يخفضان كمية المياه المتاحة، أمر أساسي، إضافة إلى ضرورة الحفاظ عليها من الهدر. ثمة سياسات واضحة لمعالجة هاتين المسألتين منها معالجة المياه المبتذلة وضبط الأفراد والمؤسسات والشركات الذين يرمون بأوساخهم، وإرشاد المزارعين لاستعمال طرق للري تحافظ على المياه وتقلل من هدرها. هذه المقاربات الثلاث أساسية ولا تحتاج إلا إلى بعض الأموال لتنفيذها. الحفاظ على الموارد المائية في بلاد جافة، هو مطلب يجب ألا يرتبط بسيناريو كارثي كي ينفذ».
ويقول: «هناك أمور أخرى لمكافحة تبدل المناخ مثل صون المناطق المشجرة أو الحرجية لحفظ المياه كي لا تنجرف التربة. علينا أن نحافظ على هذه المناطق وألا نستبدلها بمد عمراني وزحف اسمنتي. هذه السياسات كان يجب أن تتبع منذ خمسين عاماً لمكافحة تبدل المناخ».
الدول الخليجية
ماذا عن الحال في الدول الخليجية؟ يجيب زريق: «في الدول العربية لا سيما الخليجية حيث الثروة الحرجية قليلة، تعتبر كمية المياه الطبيعية المتاحة قريبة من الصفر. كانت الحياة قبل اكتشاف النفط بسيطة. لكنها اليوم تبدلت، فهناك مد عمراني وتنمية وكثافة سكانية وحياة رفاه وهناك تالياً حاجة إلى المياه. والمياه في غالبية دول الخليج أكثرها يأتي من تحلية مياه البحر. ومادام النفط متاحاً بكميات كبيرة ، فإن تحلية المياه ستظل سارية. وهذه المسألة لها إيجابيات وسلبيات. ولكن لا بد منها. إلا أن دول الخليج قامت منذ زمن طويل بعمل إيجابي جداً هو إعادة استعمال المياه المبتذلة لزرع المناطق المدنية. وهذا بدأت به دبي وأبو ظبي والكويت وقطر حيث تم زرع الأشجار واستغلال كل نقطة مياه. ولا شك أن في بلدان دول الخليج حكومات تقوم بمسؤولياتها أكثر من الدولة اللبنانية. هناك مشكلة تتمثل في تدهور البيئة اللبنانية الأرضية والبحرية. ويمكننا القول إن هناك تصحراً تحت مياه البحر. فالغطاسون يرون بأم العين أثر طرق الصيد العشوائية والديناميت والسموم في مياه البحر التي تهرب منها الأسماك... يجب معالجة هذه الأمور».
ويشدد زريق على أن «المسؤولية في الأمور ذات الصلة بالبيئة والمناخ لا تتحملها الحكومات فحسب، بل تشمل المواطن الذي له دور أيضاً في ما يحصل على الصعيد البيئي وتغير المناخ».
ويختم زريق: «في عالم مثالي نفضل أن تكون مواسم الطبيعة في أوقاتها. برد وثلوج في الشتاء، ومطر خفيف في الخريف. لا نعرف جيداً ما إذا كان هذا الوضع الذي نمر به مرحلياً أو طويل الأمد أو مرتبطاً بالتغيرات المناخية والاحتباس الحراري. لكن هذه المراحل مهمة لنا كبيئيين، لأن بعض البذور لا تنبت ولا تعطي ثماراً إلا إذا بردت ومر عليها الصقيع. وهناك أمراض نباتية لا تزول إلا بالبرد القارس».
التغيّر المناخي يهدد الأرز
أدرج الاتحاد الدولي للحفاظ على البيئة أرز لبنان في قائمة الأصناف «المهددة بالانقراض». ويحذر خبراء محليون واختصاصيون في البيئة من الانعكاسات السلبية لظاهرة الاحتباس الحراري على أشجار الأرز، إذ يعتبرون أن الدلائل كلها تشير إلى أن استمرار التغيّر المناخي قد يفاقم الخطر على شجرة الأرز رمز لبنان.
ويقول الخبير في غابات البحر المتوسط فادي أسمر: «إذا لم يكن هناك مزيج من الأمطار والثلوج والجليد لأيام متتالية، فإن بذور الأرز لن تتناثر على الأرض، وهذه البذور تحتاج إلى مناخ بارد لتنبت، وإلى الندى في الصيف لأنه يلبي حاجتها إلى المياه. وأي تغيير في هذه الظروف لأعوام عدة متتالية قد يؤدي إلى موت الأشجار».
من جهة أخرى، يعتبر الجفاف من أبرز أسباب انتشار حشرة الأرز المنشارية، لأن ارتفاع الحرارة يساعد على تكاثرها. وتعيش الحشرة مع شجرة الأرز في البيئة نفسها، لكن الطقس الحار يدفعها إلى التكاثر ثلاث مرات سنوياً، بدلاً من مرة واحدة.
ذوبان القطب قد يغرق واشنطن
توقعت دراسة حديثة نشرها موقع «لايف ساينس» أن تجد واشنطن ومدن أميركية ساحلية نفسها عائمة فوق مياه يصل عمقها إلى أقدام عدة إذا قضى الارتفاع المتزايد للحرارة على صفائح الجليد في القطب الجنوبي.
ويخشى علماء من أن استمرار ارتفاع الحرارة في العالم قد يؤدي إلى انهيار أجزاء صفائح الثلج كلها في العقود أو القرون المقبلة. وعززت هذه المخاوف دراسة نشرتها أخيراً مجلة «الطبيعة» حذرت فيها من أن حرارة القطب الجنوبي هي الآن أعلى مما كان يتوقع سابقاً.
وفي هذا الإطار، قال الباحث الكندي جيري ميتروفيكا من جامعة تورنتو: «إن هذه الصفائح معرضة إلى التلف بسبب الاحتباس الحراري»، محذراً من أنه «إذا انهارت فسوف تتسبب في مشاكل بيئية كثيرة، وأن ارتفاع معدلات مياه البحر حول الكثير من المناطق الساحلية سيزيد بنسبة 25 في المئة عما كان متوقعاً، أي ما بين 6 و7 أمتار من المياه».