قصة قصيرة / صرير الأبواب المحكمة

1 يناير 1970 10:57 ص
| بشرى خلفان* |

الساعة الآن الحادية عشرة الا ربعا، أبي أطفأ أنوار البيت وتأكد من اغلاق أبوابه، أسمع خطواته تصعد الدرج وبعد قليل بابه سيغلق، كعادته سينام عند الحادية عشرة على صوت الراديو بعد أن يضبطه على ذبذبات لندن، وها أنا قد أنجزت سطرين من رسالتي اليك، تعرف كم هي صعبة كتابة الرسائل، تماما كاعادة نبش قبور أهلنا الذين ماتوا والتفرس في بقاياهم، لا تعترض، عن ماذا سأكتب لك عن وحدتي، فراغي، أم عن هذا الفقد المؤلم للصحبة، أم عن ذكرياتنا المهترئة، المستحثات التي جمعناها من بطن الوادي، كعكة الزبيب التي تحب أو جلوسنا في سيارتك نسمع عبد الحليم يضيء قناديله، لا، أنت هناك غارق في دراستك ووحدتك، وأنا هنا وحدي أصارع فراغ البيت الكبير.

الساعة الآن تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل، كنت قد بدأت أنام عندما استيقظت على خطوات أبي تنزل الدرج وأصوات قرقعة الأبواب، هذه عادة جديدة أكتسبها منذ أن ماتت، يستيقظ عند الواحدة ويفتش على الأبواب، ثم يعود الى فراشه.

تضاءل كثيرا منذ وفاتها، أصبحت شهيته للطعام قليلة جدا، وقد توقف تماما عن أكل اللحوم، ولا يتعشى أبدا، أما حبات الشوكولاته المغلفة بالبندق فما عادة تختبئ في أدراج خزانته.

لم أعد أحتمل صمته، تمر أيام كثيرة لا يعبأ بالقاء أوامره في وجهي، ولا حتى تحية المساء، أشعر أحيانا أنها عندما ماتت أخذت معها أكثر مما يجب، ليس الصمت وحده هو ما يغيظني ولا تفتيشه المستمر على الأبواب، ولا توقفه عن مشاهدة الرسوم المتحركة معي وقت الظهيرة، وقد أكون قاسية بعض الشيء لكن توقفه عن مداعبة ياسمين أثناء جولته المسائية هو ما يقلقني.

قبل سفرك، كان ما زال يقرأ جريدة الصباح، ويبتسم ابتسامته الماكرة بين الحين والآخر وهو يطالع الأخبار، وعندما أنظف غرفته صباحا كنت أجد وسائدها مبعثرة في أرجاء المكان، أما الآن فوسائدها لا تمس وجانبها على السرير على ما هو عليه، وجريدة الصباح لا أجدها ملقية على أرضية الحمام.

بالأمس حين كنت أحاول الكتابة، سمعت صوتا في البيت، لا، ليس صوت أبي، ولا الريح ولا صوت الراديو الذي ينساه مشتعلا وينام، لا كان صوت أبواب تفتح، صرير... صوت خطوات ناعمة تصعد الدرج، ورنة كخشخشة أساورها، لكني لم أعد أخاف فالأشباح تركت البيت منذ زمن ولا أظن أنها سترجع قريبا.

«على فكرة تركت لك أمي مظروفا ختمته باصبعها، وحلفت أبي أن يعطيك اياه بعد انتهاء غربتك، أنت محظوظ كانت دائما تحبك أكثر، فلم تترك لي سوى رجل مهدم.

سألني اليوم عن موعد رجوعك، لكنه لم ينتظر الرد، في الحقيقة لم أسمع سؤاله في البداية وربما لم أفهمه، أعتقد أن الحروف هجرت مخارجها، فأصبحت الكلمات تخرج من فمه بشكل غير مفهوم، صرت أجد صعوبة بالغة في فهم الجمل الطويلة المدغمة التي يندر أن يقولها وعندما ينطق أبدو غير قادرة على فهمها.

هذه رسالتي الثالثة، كنت أجد كتابة الرسائل أمرا مملا وأدعى للحزن، لكنها الآن تساعدني على تحمل سكون ما هو غير ساكن، على فكرة، بالأمس رافقته للمستشفى، كان قد بدأ يحس بالارهاق منذ الأسبوع الماضي، ثم بدأت حرارته بالارتفاع، المسكنات المعتادة لم تجد، الطبيب احتجزه لأجراء فحوصات، لا تهتم، يبدو اليوم أفضل، ولو أنه لم ينطق طوال النهار الا أن الممرضة قالت انها سمعته البارحة يطلق أصواتا تشبه الدندنة.

لم أنم جيدا بالأمس، كنت أفكر بك، أحاول أن أتخيل وحدتك وأقارنها بوحدتي، كنت أسألك ان كان البرد يداهمك فجأة رغم دفء بيتك، هل تبحث في أدراجك عن رسائلي وتلصق صورنا على زجاج مرآتك، هل تحلم بي، هل تقطر لسانك وتبتلع ريقك متمنيا قطرات من البابلوه، هل يوقظك صوت يشبه همس أساورها، لأني لم أعد أستطيع النوم دون أن اغمض عيني على صرير الأبواب المحكمة.

خرج أبي من المستشفى بعد أن أكد الطبيب انها أعراض تقدم السن المعتادة، وانه لا داعي للقلق، وبدا احسن حالا، حتى انه قضى نهاره كله في مكتبه يراجع أعماله، لكنه لم يتغد بل طلب الشاي مرتين خلال النهار وبدا منهمكا كمن يحاول انجاز عمل اقترب وقت تسليمه، وفي حوالي السابعة، استدعاني وطلب مني أن اصحبه للعشاء، لم أظهر دهشتي، لكني وأنا أتجمل للخروج معه أعدت رسم وجهي مرتين الأولى لأني وجدتها هي من تطل من مرآتي والثانية لأني أفسدت أصباغي بالدموع.