النجاح السريع يقابله الآن انهيار أسرع... إقفالات مصانع بالآلاف وبطالة تطول الملايين
تحقيق / أرقام صينية... لأزمة صناعية

عامل صيني في معمل للفحم الحجري في شانغزهي (رويترز)





| إعداد قسم الترجمة |
لا يستغرق الأمر سوى رحلة مدتها ساعتان بالسيارة عبر رقعة صغيرة من الأرض (في الصين) كي يتكشف للمرء الكثير عن مدى التحول الاقتصادي الذي يشهده ذلك البلد الشاسع. تلك الرقعة الموجودة في جنوب الصين تمتد من مدينة غوانغزهو الساحلية إلى مدينة شينجين التي تم تأسيسها بعد وفاة الزعيم ماو لتكون تجربة في مجال المشروعات الخاصة. وعلى مدى العقود الماضية أصبحت شينجين واحدة من أسرع المحركات الاقتصادية دوراناً - حيث انها تحولت إلى مركز عالمي في مجال تصنيع الملابس والأحذية والالكترونيات - بفضل خدمة عشرات الملايين من العمال المهاجرين (داخلياً).
أما الآن فإن تلك المدينة تشهد انكماشا بارزاً على نحو مساو، فخلال العام الفائت تم اغلاق آلاف من المصانع، وربما يتراوح المعدل بين ثلث ونصف العدد الاجمالي. وصحيح انه من الصعب الحصول على ارقام احصائية يمكن الاعتماد عليها... لكن حدة الانكماش الاقتصادي واضحة للعيان. ولقد بدأ تدفق العمالة المهاجرة (داخليا) في التحرك في الاتجاه المعاكس. وبعض العمال الذين تم توظيفهم حديثا باتوا عالقين (كما ان بعضهم قد بدأوا في ممارسة صناعة جديدة ألا وهي جرائم الشوارع). أما المحظوظون فانهم عثروا على وظائف في مصانع انتقلت إلى مواقع داخلية وان كانت وظائف بأجور أقل.
وعلى الطريق عبر مدينة «دونغوان» الصناعية التي توجد في منتصف الطريق تقريباً بين مدينتي غوانغزهو وشينجين، فإن البناية تلو الاخرى (سواء كانت سكنية أو صناعية) ترفع على واجهاتها رايات حمراء تعلن عن انها معروضة للبيع. ويقول وكلاء محليون انه لا يوجد اهتمام يذكر من جانب المشترين.والواقع ان تراجع الطلب على كل ما يمكن للمصانع ان تنتجه هو جزء من تفسير هذا الامر. كما ان هناك قلقا ازاء جودة العقارات والممتلكات المعروضة للبيع، فعدد كبير من المصانع تم بناؤه على عجل. ولم تحصل تلك المصانع على القدر الكافي من الصيانة بل ربما لم تحصل على أي صيانة أساساً. وكذلك الحال إلى ضبابية وغموض قوانين الملكية العقارية الصينية. فليس باستطاعة المشترين ان يكونوا على يقين من انهم سيتملكون حقاً ما يشترونه.
إن الانهيار السريع للنشاط الاقتصادي حول مدينة «دونغوان» يشير إلى ان شركات القطاع الخاص الصينية تتعرض حاليا إلى الضربات ذاتها التي تتلقاها نظيراتها في كثير من الدول الاخرى حول العالم.
ومع ذلك فإن ذلك الامر يثير ايضا تساؤلات حول امكانية نجاة الكثير من تلك الشركات على المدى الطويل. فتلك الشركات كانت ومازالت من بين المكونات الاكثر دينامية في اطار نهضة الصين السريعة نحو الازدهار.
وربما يكون اضطراب تلك الشركات امرا عابرا، ومع ذلك، فإن هنالك أيضا مخاوف من ان الأمر مرتبط في واقع الأمر بوجود اختلالات عميقة في الاقتصاد الصيني.
قبل ستة اشهر كانت شركات التصنيع الصينية تعاني من اثار حدوث ارتفاعات في جميع عناصر التكاليف، مثل الأجور واسعار المواد الخام واسعار الطاقة الى الضرائب واسعار الفائدة. وفي الوقت ذاته فإنه كان هناك نقص واضح في امدادات كل انواع العمالة الماهرة، والنتائج السنوية الخاصة بالعام 2008 - وهي النتائج التي من المقرر نشرها في غضون الشهرين المقبلين - ستكشف عن ان تلك العوامل كان لها دور كبير في اعاقة قطاع الاعمال الصيني طوال جزء كبير من السنة.
والآن فإن تلك الشركات باتت تتلقى نوعا مختلفا من الضربات، ألا وهو حدوث تراجع دراماتيكي حاد في اعداد الطلبيات، فبيانات الانتاج الصناعي الرسمية عن شهر ديسمبر الفائت كشفت عن حدوث تراجع ملموس في معدل النمو السنوي، اما ارقام الصادرات التي يمكن الاعتماد عليها اكثر، فإنها شهدت انخفاضا بلغت نسبته 17.5 في المئة خلال شهر يناير الفائت مقارنة بما كانت عليه في يناير 2007، كما انخفضت الواردات بنسبة 43.1 في المئة.
والواقع ان ذلك التباطؤ الاقتصادي ذاته هو الذي دفع كل تلك التكاليف في الاتجاه الآخر أي إلى التراجع، فلقد تسبب التباطؤ الاقتصادي في تخفيض اسعار المواد الخام واسعار الطاقة بشكل حاد، كما تسبب في ابطاء حركة سوق العمالة، وبعد سنوات من رفع سعر الفائدة على نحو مطرد ورفع المتطلبات الرأسمالية الخاصة بالبنوك، فإن السلطات المالية في بكين بدأت في تخفيض ذلك السعر وتلك المتطلبات في سبتمبر الفائت، كما دأبت تلك السلطات على التصريحات التي تشجع على الاقراض.
وقامت السلطات الصينية، خوفا من تداعيات اجتماعية لانتشار البطالة بالتراجع عن بعض السياسات التي اعتمدت بين 2006 و2008، والتي رفعت كلفة الشركات واستعيدت تخفيضات ضرائب التصدير مثلا، كما ان القوانين الجديدة حول الرواتب وقوانين العمل التي فرضت تكاليف اضافية على العمال، تطبق الان بشكل اكثر مرونة مما بدت عند اعتمادها.
ان معظم النجاح البارز الذي حققه قطاع الاعمال الصيني كان قائما على أساس انشطة منخفضة من حيث هامش الربح ومن حيث التكنولوجيا وبشكل عام فإن الصين هي دولة مصدرة للسلع ذات المحتوى التكنولوجي المنخفض كما انها دولة مستوردة للسلع الاكثر تطورا وتعقيدا من الناحية التكنولوجية، اما في الدول الاغنى، فإن النمط المعكوس هو النمط المعتاد، ولا عجب في ذلك.
ان الكثير من الشركات الصينية قامت على أساس استخدام عمالة رخيصة لانتاج سلع استهلاكية رخيصة مثل الملابس والأحذية التي يتم تصديرها عادة، كما ان هناك شركات اخرى كثيرة تنتج سلعا ذات درجة اعلى كالأجهزة الالكترونية او الملابس الرياضية لحساب شركات غربية ذات علامات تجارية مشهورة، لكن المشكلة تكمن في ان هناك دولا اخرى تستطيع ايضا ان تقوم بذلك، وبأسعار ارخص احيانا.
والامر المسلّم به هو ان الصين لديها عدد كبير من الشركات المهمة التي ليست في حاجة إلى ان تقلق من ان تختفي اعمالها وتذهب لصالح اقتصادات ناشئة اخرى. فلقد ظهرت اسماء اكثر من 30 شركة صينية بين 100 شركة قامت مؤسسة «بوسطن كونسلتتغ غروب» الاستشارية الاميركية بتزكيتها في يناير الفائت باعتبارها «تتنافس على الزعامة العالمية» ولا تستطيع اي دولة اخرى ان تفتخر بعدد اكبر من عدد الشركات الصينية التي وردت في تلك القائمة، لكن جميع تلك الشركات تقريبا مملوكة - وان جزئيا على الاقل - من جانب الحكومة الصينية وتستفيد من حواجز حمائية في داخل اسواقها المحلية، فشركة «تشاينا موبايل» على سبيل المثال هي اكبر مشغل لخدمات الاتصالات المتنقلة على مستوى العالم، لكن هناك قرارا وزاريا يجعل المنافسة التي تواجهها تلك الشركة مقتصرة على عدد قليل من الشركات المحلية الأخرى.
وينطبق نفس الكلام على صناعات الفولاذ والألمنيوم والطاقة والتمويل وعدد من القطاعات الأخرى التي تعتبرها الحكومة «قطاعات استراتيجية».
لقد كشف التراجع الاقتصادي الحالي عن ان جزءا كبيرا من قطاع الأعمال الصيني يتسم بالارتجالية على نحو بارز. فلقد بدا الأمر وكأن الشركات التي «ماتت» تبخرت ببساطة دون ان تترك وراءها دمعة أو أثرا. والواقع ان الأمر يتعلق بما هو أكثر من مجرد استئصال الطاقة الانتاجية الفائضة أو تحوّل عمليات الانتاج الى المناطق الداخلية، فالمشترون الذين كانوا قبل سنة يتوجهون بسياراتهم من هونغ كونغ عبر الحدود الى جنوب الصين لشراء الملابس، أصبحوا الآن يتوجهون جوا الى العاصمة البنغلاديشية داكا، كما ان عدد الأحذية الرياضية التي ستنتجها شركة «نايكي» في فيتنام خلال العام الحالي سيزيد على عدد الاحذية التي ستنتجها الشركة في الصين التي ظلت المصدر الرئيسي للشركة طوال السنوات الـ 15 الماضية.
ومع ذلك فلا بد من الاقرار بأنه مازالت هناك مبررات جيدة لبقاء مثل تلك الشركات العالمية في الصين. فالدول الأخرى مثل فيتنام واندونيسيا وغيرهما ليس لديهما سوى قدرة محدودة على التوسع بسرعة دون ان يشكل ذلك التوسع عبئا على البنى التحتية أو ان يؤدي الى تضخم في الاجور، لكن الصين مازال لديها الكثير من العمالة الرخيصة. ولعل الأمر الأكثر أهمية هو ان الصين لديها سوق محلية شاسعة جدا، ومعظم تلك السوق تحظى بالحماية ضد المنتجات الاجنبية. ولكن بالنظر الى التراجع الملموس الذي تواجهه شركات التصنيع في جنوب الصين حاليا، فانه يمكن القول ان تلك المزايا لها حدود.
ان الهوامش الأعلى ترتبط غالبا بالجودة الأعلى. ففي دراسة مسحية حديثة استطلعت آراء 700 من الشخصيات الاحترافية في مجال الاعمال على مستوى العالم، رأى 80 في المئة من أفراد العينة ان الجودة المنخفضة تمثل عائقا مهما أمام مبيعات المنتجات الصينية في الخارج. وقال ثلثا أفراد العينة ان رخص الأسعار هو الميزة الأساسية في السلع الصينية. وفي المقابل فان 12 في المئة فقط قالوا ان جودة المنتجات الصينية آخذة في التحسن.
ان السمعة الخارجية المتدنية التي ترتبط بالمنتجات الصينية لا تلحق الأذى بالشركات الصينية فقط، بل أيضا بالشركات الغربية التي من المعروف عنها ان تقوم بتسويق وبيع سلع مصنوعة في الصين، ففي العام الماضي، وكاستجابة لسلسلة من الفضائح والشكاوى والدعاوى من جانب مشترين ضد منتجات صينية، أقدمت الولايات المتحدة على تمرير قوانين تتطلب مزيدا من الاجراءات التوثيقية المعقدة. وصحيح ان هذا الامر كان مكلفا جدا لشركات التصنيع الجيدة، لكن ما حصل في المقابل هو ان الشركات الاميركية التي تتولى توزيع الدمى الصينية (داخل الولايات المتحدة) وجدت نفسها غير قادرة على تحديد مدى سلامة المنتجات التي استوردتها من الصين. وانطلاقا من مخاوف مشابهة، فرضت الهند قيوداً على انواع عديدة من الدمى المصنوعة في الصين كدمى القطارات والسيارات وغيرها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا لم يبذل المصنعون الصينيون مزيدا من الجهد لتطوير جودة منتجاتهم؟ الاجابة الواضحة هي ان الصين تواجه المشاكل نفسها التي واجهتها اليابان في يوم من الايام، لكن المعضلة ان هذه المشاكل ظهرت في وقت حرج، حيث التركيز ينصب على المستهلك وتلبية رغباته وكل هفوة في التصنيع يتم تضخيمها.
وبالتأكيد هناك حل لهذا، لكن الوعي القومي في اليابان بخصوص اهمية الجودة ظهر مبكرا في مرحلة التصنيع التي تلت الحرب، وقتها تبنت اليابان تعاليم «ادوارد ديمنغ» رائد مراقبة الجودة الاميركي. فظهرت شركة هوندا اليابانية لتنافس صناعة الدراجات النارية البريطانية مقدمة جودة عالية وفي الوقت نفسه بسعر اقل. وفعلت شركتا سوني وباناسونيك الشيء نفسه لتنافس بذلك الشركات الاميركية في مجال صناعة أجهزة الراديو والتلفزيون.
وبدأت كل الشركات الناجحة تقريباً بإنتاج بعض المكونّات - على الأقل - لشركات أخرى (مازالت سوني تسير على هذا النمط) لكنها كانت كلها تشترك في اصرارها على بناء أسماء لنفسها عن طريق صنع منتجات متميزة، ليس هناك حاجة للقول بان تلك الشركات كانت لديها رؤية مستقبلية بعيدة المدى. فـ «كونوسوكا ماتسوشيتا» - مؤسس شركة باناسونيك مثلاً - رسم مسودة لخطة عمل لشركته لـ 1000 عام مقبلة.
ورغم أنه لا يوجد ما يوازي هذه الشركات في الصين حتى الآن، الا ان الكثير من الشركات الصينية تدرك تماماً الانتقادات الواسعة التي توجّه لجودة منتجاتها. فبدأت بعض الشركات الصينية الكبرى في تعيين غربيين يتمتعون بخبرة طويلة في المؤسسات الأميركية والأوروبية.
السلطات الصينية من جانبها انتبهت لمسألة نقص مستوى الجودة بسبب تأثيرها المدمر داخل الأسواق المحلية (المحمية بصورة هائلة) حيث كان من السهل عليها جداً تحقيق النجاح الرخيص. وفي العام الماضي تسبب تسمم في منتجات ألبان صينية في مقتل 6 أطفال وحكم على رئيسة مجلس ادارة شركة «سانلو» المصنعة وهي من كبار المنتجين - بالسجن مدى الحياة فيما حكم على اثنين من الموزعين بالإعدام.وهنا يجب التنويه بأن هناك الكثير من المنتجات ذات الجودة العالية يتم تصنيعها في الصين مثل المنتجات الرياضية ومشغلات ملفات الموسيقى MP3 وأيضاً الملابس الفاخرة. واصبحت الصين أكبر مصدّر لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في العالم فيما امتلأت الأسواق المحلية والمعارض التجارية بالماركات التجارية المعروفة. ففي مجال المواصلات وحده هناك ما يربو على عشر شركات كبرى لتصنيع السيارات ونحو 300 مصنّع للإطارات و1000 مصنع للدراجات الهوائية وبضعة آلاف من مصنعي دراجات السكوتر وكلهم يتطلعون للعب دور بارز على الساحة الصناعية. وهناك أكثر من 3500 مصنّع للساعات يعرض خدماته على موقع علي بابا Alibaba.com - وهو من أشهر مواقع توريد المنتجات على الإنترنت - كما أن آلاف من الشركات تعرض ماكينات الجيليت المزيفة وساعات الرولكس المقلدة للبيع على أرصفة الشوارع.
وعدد قليل جداً من هذه الجهود تحولت لتصبح ماركات تجارية قوية فيما يشبه اللغز. وتحتل الشركات الأجنبية العاملة في الصين النسبة الأكبر للصادرات التكنولوجية المتطورة وأبسط تفسير لذلك هو أن العمل تحت اسم مجهول يناسب كثيراً من الشركات الصينية. فتجد في مدينة «دنغوان» شركة «يويوين» وهي فرع لشركة «بوشين» - وهي شركة تايوانية بنمط مشابه لشركة «هون هاي» - تنتج أحذية رياضية لشركات غربية كبرى. هناك ايضاً شركات أصغر تصنّع كل شيء بدءاً من مضارب التنس وحتى المنتجات الأوروبية الفاخرة. وبسبب الانتشار الواسع لمنتجات هذه الماركات الأصلية فإن أصحاب الماركات الغربية عادة ما يصرون على عقد اتفاقات بشروط تمنع الافصاح.
فالعمل تحت أسماء مجهولة يعفي كذلك الشركات الصينية من التدقيق الرسمي وفي وسائل الإعلام حول ظروف العمل. لكن هناك حدوداً لمثل هذه الاستراتيجية بنفس القدر الذي لا تكون فيه هوامش الربح متدنية بشكل متفاوت. ومسألة الحفاظ على قاعدة الزبائن تعني ابعاد المنافسة عن اي دولة تملك أيدي عاملة رخيصة.
وفي تايوان تجد عديداً من الشركات التي كانت يوماً ما رائدة في مجال تصنيع المنتجات التي لا تحمل أسماء قد طورت ببطء من انتاج منتجاتها عالية الجودة التي كانت يوماً تحمل أسماء مستعارة أو مجهولة لكن هذه المرة
مستخدمة أسماءها الحقيقية مثل شركات ايسر Acer وAsus وHtc. لكن العقبة الأبرز وراء انتهاج مثل هذا النمط في الصين هو ضعف حماية الملكية الفكرية. اذاً ما الفائدة من الاستثمار في الابتكار ان كانت النتائج سيستولي عليها المنافسون؟
وادراكاً منها بهذا العائق فقد مررت الحكومة الصينية قوانين جديدة وكانت جادة في تقديم دعم شفهي لحماية فكرية أكبر، لكن الحسم في هذه الأمور بقي ضئيلاً وبقي التطبيق واهياً. ومعظم براءات الاختراع الممنوحة للمطبقين المحليين، كانت تُمنح عموماً للتحسينات على المنتجات وليس للابتكارات أو التصاميم الجديدة.
ويمكن اعتبار ضعف قوانين حقوق الملكية الفكرية على انه جزء من مشكلة أعمق، وهي ضعف حقوق الملكية الخاصة بشكل عام.فقبل اعادة انفتاح الصين في أواخر السبعينات - كما ذكرت دراسة حديثة حول الابتكار الصيني أعدتها «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» فإن هذا الموضوع لم يثر وقتها، فالابتكار والتطوير التكنولوجي كان مقصوراً على الجهات الحكومية والمصانع التي تتلقى أوامر عمل. وحتى يومنا هذا، فإن شركات قليلة جداً بإمكانها ادعاء استقلالية متحررة. ووفقاً للاقتصادي ياشنغ هوانغ التابع لمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا، فإن الشركات التي تتحكم فيها الحكومة تمثل نصف حجم الاقتصاد (الصيني)، وهذا بالطبع يقلل من مستوى التأثير الحقيقي لهذه الشركات في الاقتصاد، لأنه حتى الشركات الخاصة تدرك أن وجودها في السوق يتوقف على علاقاتها بالحكومة.
وتلك الشركات التي تتحكم فيها الدولة يتم تدوير كبار مديريها بناءً على توصيات الحكومة. فشركة «تشاينا موبايل» التي يقال ان لديها 100 ألف مورّد تكون ادارتها وموزعوها التشغيليون عرضة للتدخل الحكومي المتكرر (تمت اعادة تنظيمها في العام الماضي)، أما الابتكار التكنولوجي فيجب أن يتم في الخارج.
لكن رغم كل ما سبق فالمعوقات التي ذكرت آنفاً لم تمنع الصين من النمو. وعندما كان بيل غيتس يزور الصين قبل عامين ضمن زياراته المتكررة لها، قال انه دائماً ما يوجه اليه سؤال عمن أين سيظهر بيل غيتس القادم وشركة مايكروسوفت المقبلة. ولاسعاد مضيفيه الحكوميين تنبأ بأن المكان سيكون من آسيا والسبب التغييرات التي شهدها مستوى التعليم وتأثير التكنولوجيا فيها. ومن السهل تصور أن شخصاً ما من الصين قد يحذو حذو السيد غيتس. لكن في ظل الظروف الحالية من الصعب - للأسف - تصور أن شخصاً ما من شركة صينية قد يفعل ذلك.
(عن «الأيكونوميست»)
لا يستغرق الأمر سوى رحلة مدتها ساعتان بالسيارة عبر رقعة صغيرة من الأرض (في الصين) كي يتكشف للمرء الكثير عن مدى التحول الاقتصادي الذي يشهده ذلك البلد الشاسع. تلك الرقعة الموجودة في جنوب الصين تمتد من مدينة غوانغزهو الساحلية إلى مدينة شينجين التي تم تأسيسها بعد وفاة الزعيم ماو لتكون تجربة في مجال المشروعات الخاصة. وعلى مدى العقود الماضية أصبحت شينجين واحدة من أسرع المحركات الاقتصادية دوراناً - حيث انها تحولت إلى مركز عالمي في مجال تصنيع الملابس والأحذية والالكترونيات - بفضل خدمة عشرات الملايين من العمال المهاجرين (داخلياً).
أما الآن فإن تلك المدينة تشهد انكماشا بارزاً على نحو مساو، فخلال العام الفائت تم اغلاق آلاف من المصانع، وربما يتراوح المعدل بين ثلث ونصف العدد الاجمالي. وصحيح انه من الصعب الحصول على ارقام احصائية يمكن الاعتماد عليها... لكن حدة الانكماش الاقتصادي واضحة للعيان. ولقد بدأ تدفق العمالة المهاجرة (داخليا) في التحرك في الاتجاه المعاكس. وبعض العمال الذين تم توظيفهم حديثا باتوا عالقين (كما ان بعضهم قد بدأوا في ممارسة صناعة جديدة ألا وهي جرائم الشوارع). أما المحظوظون فانهم عثروا على وظائف في مصانع انتقلت إلى مواقع داخلية وان كانت وظائف بأجور أقل.
وعلى الطريق عبر مدينة «دونغوان» الصناعية التي توجد في منتصف الطريق تقريباً بين مدينتي غوانغزهو وشينجين، فإن البناية تلو الاخرى (سواء كانت سكنية أو صناعية) ترفع على واجهاتها رايات حمراء تعلن عن انها معروضة للبيع. ويقول وكلاء محليون انه لا يوجد اهتمام يذكر من جانب المشترين.والواقع ان تراجع الطلب على كل ما يمكن للمصانع ان تنتجه هو جزء من تفسير هذا الامر. كما ان هناك قلقا ازاء جودة العقارات والممتلكات المعروضة للبيع، فعدد كبير من المصانع تم بناؤه على عجل. ولم تحصل تلك المصانع على القدر الكافي من الصيانة بل ربما لم تحصل على أي صيانة أساساً. وكذلك الحال إلى ضبابية وغموض قوانين الملكية العقارية الصينية. فليس باستطاعة المشترين ان يكونوا على يقين من انهم سيتملكون حقاً ما يشترونه.
إن الانهيار السريع للنشاط الاقتصادي حول مدينة «دونغوان» يشير إلى ان شركات القطاع الخاص الصينية تتعرض حاليا إلى الضربات ذاتها التي تتلقاها نظيراتها في كثير من الدول الاخرى حول العالم.
ومع ذلك فإن ذلك الامر يثير ايضا تساؤلات حول امكانية نجاة الكثير من تلك الشركات على المدى الطويل. فتلك الشركات كانت ومازالت من بين المكونات الاكثر دينامية في اطار نهضة الصين السريعة نحو الازدهار.
وربما يكون اضطراب تلك الشركات امرا عابرا، ومع ذلك، فإن هنالك أيضا مخاوف من ان الأمر مرتبط في واقع الأمر بوجود اختلالات عميقة في الاقتصاد الصيني.
قبل ستة اشهر كانت شركات التصنيع الصينية تعاني من اثار حدوث ارتفاعات في جميع عناصر التكاليف، مثل الأجور واسعار المواد الخام واسعار الطاقة الى الضرائب واسعار الفائدة. وفي الوقت ذاته فإنه كان هناك نقص واضح في امدادات كل انواع العمالة الماهرة، والنتائج السنوية الخاصة بالعام 2008 - وهي النتائج التي من المقرر نشرها في غضون الشهرين المقبلين - ستكشف عن ان تلك العوامل كان لها دور كبير في اعاقة قطاع الاعمال الصيني طوال جزء كبير من السنة.
والآن فإن تلك الشركات باتت تتلقى نوعا مختلفا من الضربات، ألا وهو حدوث تراجع دراماتيكي حاد في اعداد الطلبيات، فبيانات الانتاج الصناعي الرسمية عن شهر ديسمبر الفائت كشفت عن حدوث تراجع ملموس في معدل النمو السنوي، اما ارقام الصادرات التي يمكن الاعتماد عليها اكثر، فإنها شهدت انخفاضا بلغت نسبته 17.5 في المئة خلال شهر يناير الفائت مقارنة بما كانت عليه في يناير 2007، كما انخفضت الواردات بنسبة 43.1 في المئة.
والواقع ان ذلك التباطؤ الاقتصادي ذاته هو الذي دفع كل تلك التكاليف في الاتجاه الآخر أي إلى التراجع، فلقد تسبب التباطؤ الاقتصادي في تخفيض اسعار المواد الخام واسعار الطاقة بشكل حاد، كما تسبب في ابطاء حركة سوق العمالة، وبعد سنوات من رفع سعر الفائدة على نحو مطرد ورفع المتطلبات الرأسمالية الخاصة بالبنوك، فإن السلطات المالية في بكين بدأت في تخفيض ذلك السعر وتلك المتطلبات في سبتمبر الفائت، كما دأبت تلك السلطات على التصريحات التي تشجع على الاقراض.
وقامت السلطات الصينية، خوفا من تداعيات اجتماعية لانتشار البطالة بالتراجع عن بعض السياسات التي اعتمدت بين 2006 و2008، والتي رفعت كلفة الشركات واستعيدت تخفيضات ضرائب التصدير مثلا، كما ان القوانين الجديدة حول الرواتب وقوانين العمل التي فرضت تكاليف اضافية على العمال، تطبق الان بشكل اكثر مرونة مما بدت عند اعتمادها.
ان معظم النجاح البارز الذي حققه قطاع الاعمال الصيني كان قائما على أساس انشطة منخفضة من حيث هامش الربح ومن حيث التكنولوجيا وبشكل عام فإن الصين هي دولة مصدرة للسلع ذات المحتوى التكنولوجي المنخفض كما انها دولة مستوردة للسلع الاكثر تطورا وتعقيدا من الناحية التكنولوجية، اما في الدول الاغنى، فإن النمط المعكوس هو النمط المعتاد، ولا عجب في ذلك.
ان الكثير من الشركات الصينية قامت على أساس استخدام عمالة رخيصة لانتاج سلع استهلاكية رخيصة مثل الملابس والأحذية التي يتم تصديرها عادة، كما ان هناك شركات اخرى كثيرة تنتج سلعا ذات درجة اعلى كالأجهزة الالكترونية او الملابس الرياضية لحساب شركات غربية ذات علامات تجارية مشهورة، لكن المشكلة تكمن في ان هناك دولا اخرى تستطيع ايضا ان تقوم بذلك، وبأسعار ارخص احيانا.
والامر المسلّم به هو ان الصين لديها عدد كبير من الشركات المهمة التي ليست في حاجة إلى ان تقلق من ان تختفي اعمالها وتذهب لصالح اقتصادات ناشئة اخرى. فلقد ظهرت اسماء اكثر من 30 شركة صينية بين 100 شركة قامت مؤسسة «بوسطن كونسلتتغ غروب» الاستشارية الاميركية بتزكيتها في يناير الفائت باعتبارها «تتنافس على الزعامة العالمية» ولا تستطيع اي دولة اخرى ان تفتخر بعدد اكبر من عدد الشركات الصينية التي وردت في تلك القائمة، لكن جميع تلك الشركات تقريبا مملوكة - وان جزئيا على الاقل - من جانب الحكومة الصينية وتستفيد من حواجز حمائية في داخل اسواقها المحلية، فشركة «تشاينا موبايل» على سبيل المثال هي اكبر مشغل لخدمات الاتصالات المتنقلة على مستوى العالم، لكن هناك قرارا وزاريا يجعل المنافسة التي تواجهها تلك الشركة مقتصرة على عدد قليل من الشركات المحلية الأخرى.
وينطبق نفس الكلام على صناعات الفولاذ والألمنيوم والطاقة والتمويل وعدد من القطاعات الأخرى التي تعتبرها الحكومة «قطاعات استراتيجية».
لقد كشف التراجع الاقتصادي الحالي عن ان جزءا كبيرا من قطاع الأعمال الصيني يتسم بالارتجالية على نحو بارز. فلقد بدا الأمر وكأن الشركات التي «ماتت» تبخرت ببساطة دون ان تترك وراءها دمعة أو أثرا. والواقع ان الأمر يتعلق بما هو أكثر من مجرد استئصال الطاقة الانتاجية الفائضة أو تحوّل عمليات الانتاج الى المناطق الداخلية، فالمشترون الذين كانوا قبل سنة يتوجهون بسياراتهم من هونغ كونغ عبر الحدود الى جنوب الصين لشراء الملابس، أصبحوا الآن يتوجهون جوا الى العاصمة البنغلاديشية داكا، كما ان عدد الأحذية الرياضية التي ستنتجها شركة «نايكي» في فيتنام خلال العام الحالي سيزيد على عدد الاحذية التي ستنتجها الشركة في الصين التي ظلت المصدر الرئيسي للشركة طوال السنوات الـ 15 الماضية.
ومع ذلك فلا بد من الاقرار بأنه مازالت هناك مبررات جيدة لبقاء مثل تلك الشركات العالمية في الصين. فالدول الأخرى مثل فيتنام واندونيسيا وغيرهما ليس لديهما سوى قدرة محدودة على التوسع بسرعة دون ان يشكل ذلك التوسع عبئا على البنى التحتية أو ان يؤدي الى تضخم في الاجور، لكن الصين مازال لديها الكثير من العمالة الرخيصة. ولعل الأمر الأكثر أهمية هو ان الصين لديها سوق محلية شاسعة جدا، ومعظم تلك السوق تحظى بالحماية ضد المنتجات الاجنبية. ولكن بالنظر الى التراجع الملموس الذي تواجهه شركات التصنيع في جنوب الصين حاليا، فانه يمكن القول ان تلك المزايا لها حدود.
ان الهوامش الأعلى ترتبط غالبا بالجودة الأعلى. ففي دراسة مسحية حديثة استطلعت آراء 700 من الشخصيات الاحترافية في مجال الاعمال على مستوى العالم، رأى 80 في المئة من أفراد العينة ان الجودة المنخفضة تمثل عائقا مهما أمام مبيعات المنتجات الصينية في الخارج. وقال ثلثا أفراد العينة ان رخص الأسعار هو الميزة الأساسية في السلع الصينية. وفي المقابل فان 12 في المئة فقط قالوا ان جودة المنتجات الصينية آخذة في التحسن.
ان السمعة الخارجية المتدنية التي ترتبط بالمنتجات الصينية لا تلحق الأذى بالشركات الصينية فقط، بل أيضا بالشركات الغربية التي من المعروف عنها ان تقوم بتسويق وبيع سلع مصنوعة في الصين، ففي العام الماضي، وكاستجابة لسلسلة من الفضائح والشكاوى والدعاوى من جانب مشترين ضد منتجات صينية، أقدمت الولايات المتحدة على تمرير قوانين تتطلب مزيدا من الاجراءات التوثيقية المعقدة. وصحيح ان هذا الامر كان مكلفا جدا لشركات التصنيع الجيدة، لكن ما حصل في المقابل هو ان الشركات الاميركية التي تتولى توزيع الدمى الصينية (داخل الولايات المتحدة) وجدت نفسها غير قادرة على تحديد مدى سلامة المنتجات التي استوردتها من الصين. وانطلاقا من مخاوف مشابهة، فرضت الهند قيوداً على انواع عديدة من الدمى المصنوعة في الصين كدمى القطارات والسيارات وغيرها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا لم يبذل المصنعون الصينيون مزيدا من الجهد لتطوير جودة منتجاتهم؟ الاجابة الواضحة هي ان الصين تواجه المشاكل نفسها التي واجهتها اليابان في يوم من الايام، لكن المعضلة ان هذه المشاكل ظهرت في وقت حرج، حيث التركيز ينصب على المستهلك وتلبية رغباته وكل هفوة في التصنيع يتم تضخيمها.
وبالتأكيد هناك حل لهذا، لكن الوعي القومي في اليابان بخصوص اهمية الجودة ظهر مبكرا في مرحلة التصنيع التي تلت الحرب، وقتها تبنت اليابان تعاليم «ادوارد ديمنغ» رائد مراقبة الجودة الاميركي. فظهرت شركة هوندا اليابانية لتنافس صناعة الدراجات النارية البريطانية مقدمة جودة عالية وفي الوقت نفسه بسعر اقل. وفعلت شركتا سوني وباناسونيك الشيء نفسه لتنافس بذلك الشركات الاميركية في مجال صناعة أجهزة الراديو والتلفزيون.
وبدأت كل الشركات الناجحة تقريباً بإنتاج بعض المكونّات - على الأقل - لشركات أخرى (مازالت سوني تسير على هذا النمط) لكنها كانت كلها تشترك في اصرارها على بناء أسماء لنفسها عن طريق صنع منتجات متميزة، ليس هناك حاجة للقول بان تلك الشركات كانت لديها رؤية مستقبلية بعيدة المدى. فـ «كونوسوكا ماتسوشيتا» - مؤسس شركة باناسونيك مثلاً - رسم مسودة لخطة عمل لشركته لـ 1000 عام مقبلة.
ورغم أنه لا يوجد ما يوازي هذه الشركات في الصين حتى الآن، الا ان الكثير من الشركات الصينية تدرك تماماً الانتقادات الواسعة التي توجّه لجودة منتجاتها. فبدأت بعض الشركات الصينية الكبرى في تعيين غربيين يتمتعون بخبرة طويلة في المؤسسات الأميركية والأوروبية.
السلطات الصينية من جانبها انتبهت لمسألة نقص مستوى الجودة بسبب تأثيرها المدمر داخل الأسواق المحلية (المحمية بصورة هائلة) حيث كان من السهل عليها جداً تحقيق النجاح الرخيص. وفي العام الماضي تسبب تسمم في منتجات ألبان صينية في مقتل 6 أطفال وحكم على رئيسة مجلس ادارة شركة «سانلو» المصنعة وهي من كبار المنتجين - بالسجن مدى الحياة فيما حكم على اثنين من الموزعين بالإعدام.وهنا يجب التنويه بأن هناك الكثير من المنتجات ذات الجودة العالية يتم تصنيعها في الصين مثل المنتجات الرياضية ومشغلات ملفات الموسيقى MP3 وأيضاً الملابس الفاخرة. واصبحت الصين أكبر مصدّر لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في العالم فيما امتلأت الأسواق المحلية والمعارض التجارية بالماركات التجارية المعروفة. ففي مجال المواصلات وحده هناك ما يربو على عشر شركات كبرى لتصنيع السيارات ونحو 300 مصنّع للإطارات و1000 مصنع للدراجات الهوائية وبضعة آلاف من مصنعي دراجات السكوتر وكلهم يتطلعون للعب دور بارز على الساحة الصناعية. وهناك أكثر من 3500 مصنّع للساعات يعرض خدماته على موقع علي بابا Alibaba.com - وهو من أشهر مواقع توريد المنتجات على الإنترنت - كما أن آلاف من الشركات تعرض ماكينات الجيليت المزيفة وساعات الرولكس المقلدة للبيع على أرصفة الشوارع.
وعدد قليل جداً من هذه الجهود تحولت لتصبح ماركات تجارية قوية فيما يشبه اللغز. وتحتل الشركات الأجنبية العاملة في الصين النسبة الأكبر للصادرات التكنولوجية المتطورة وأبسط تفسير لذلك هو أن العمل تحت اسم مجهول يناسب كثيراً من الشركات الصينية. فتجد في مدينة «دنغوان» شركة «يويوين» وهي فرع لشركة «بوشين» - وهي شركة تايوانية بنمط مشابه لشركة «هون هاي» - تنتج أحذية رياضية لشركات غربية كبرى. هناك ايضاً شركات أصغر تصنّع كل شيء بدءاً من مضارب التنس وحتى المنتجات الأوروبية الفاخرة. وبسبب الانتشار الواسع لمنتجات هذه الماركات الأصلية فإن أصحاب الماركات الغربية عادة ما يصرون على عقد اتفاقات بشروط تمنع الافصاح.
فالعمل تحت أسماء مجهولة يعفي كذلك الشركات الصينية من التدقيق الرسمي وفي وسائل الإعلام حول ظروف العمل. لكن هناك حدوداً لمثل هذه الاستراتيجية بنفس القدر الذي لا تكون فيه هوامش الربح متدنية بشكل متفاوت. ومسألة الحفاظ على قاعدة الزبائن تعني ابعاد المنافسة عن اي دولة تملك أيدي عاملة رخيصة.
وفي تايوان تجد عديداً من الشركات التي كانت يوماً ما رائدة في مجال تصنيع المنتجات التي لا تحمل أسماء قد طورت ببطء من انتاج منتجاتها عالية الجودة التي كانت يوماً تحمل أسماء مستعارة أو مجهولة لكن هذه المرة
مستخدمة أسماءها الحقيقية مثل شركات ايسر Acer وAsus وHtc. لكن العقبة الأبرز وراء انتهاج مثل هذا النمط في الصين هو ضعف حماية الملكية الفكرية. اذاً ما الفائدة من الاستثمار في الابتكار ان كانت النتائج سيستولي عليها المنافسون؟
وادراكاً منها بهذا العائق فقد مررت الحكومة الصينية قوانين جديدة وكانت جادة في تقديم دعم شفهي لحماية فكرية أكبر، لكن الحسم في هذه الأمور بقي ضئيلاً وبقي التطبيق واهياً. ومعظم براءات الاختراع الممنوحة للمطبقين المحليين، كانت تُمنح عموماً للتحسينات على المنتجات وليس للابتكارات أو التصاميم الجديدة.
ويمكن اعتبار ضعف قوانين حقوق الملكية الفكرية على انه جزء من مشكلة أعمق، وهي ضعف حقوق الملكية الخاصة بشكل عام.فقبل اعادة انفتاح الصين في أواخر السبعينات - كما ذكرت دراسة حديثة حول الابتكار الصيني أعدتها «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» فإن هذا الموضوع لم يثر وقتها، فالابتكار والتطوير التكنولوجي كان مقصوراً على الجهات الحكومية والمصانع التي تتلقى أوامر عمل. وحتى يومنا هذا، فإن شركات قليلة جداً بإمكانها ادعاء استقلالية متحررة. ووفقاً للاقتصادي ياشنغ هوانغ التابع لمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا، فإن الشركات التي تتحكم فيها الحكومة تمثل نصف حجم الاقتصاد (الصيني)، وهذا بالطبع يقلل من مستوى التأثير الحقيقي لهذه الشركات في الاقتصاد، لأنه حتى الشركات الخاصة تدرك أن وجودها في السوق يتوقف على علاقاتها بالحكومة.
وتلك الشركات التي تتحكم فيها الدولة يتم تدوير كبار مديريها بناءً على توصيات الحكومة. فشركة «تشاينا موبايل» التي يقال ان لديها 100 ألف مورّد تكون ادارتها وموزعوها التشغيليون عرضة للتدخل الحكومي المتكرر (تمت اعادة تنظيمها في العام الماضي)، أما الابتكار التكنولوجي فيجب أن يتم في الخارج.
لكن رغم كل ما سبق فالمعوقات التي ذكرت آنفاً لم تمنع الصين من النمو. وعندما كان بيل غيتس يزور الصين قبل عامين ضمن زياراته المتكررة لها، قال انه دائماً ما يوجه اليه سؤال عمن أين سيظهر بيل غيتس القادم وشركة مايكروسوفت المقبلة. ولاسعاد مضيفيه الحكوميين تنبأ بأن المكان سيكون من آسيا والسبب التغييرات التي شهدها مستوى التعليم وتأثير التكنولوجيا فيها. ومن السهل تصور أن شخصاً ما من الصين قد يحذو حذو السيد غيتس. لكن في ظل الظروف الحالية من الصعب - للأسف - تصور أن شخصاً ما من شركة صينية قد يفعل ذلك.
(عن «الأيكونوميست»)