في بحث لاستاذ الشريعة بجامعة الكويت يرفع الالتباس الشرعي عن قضايا تثار عند الاحتفال بالأعياد الوطنية

النشمي: جائز شرعا ... تحية العلم والوقوف احتراما للحاكم وموسيقى الجيش

تصغير
تكبير
| كتب عبدالله متولي |
تعيش الكويت هذه الايام فرحة الاحتفال بمناسبتين عزيزتين على الشعب الكويتي الأولى ذكرى الاستقلال التي توافق الخامس والعشرين من فبراير من كل عام، والثانية ذكرى التحرير في السادس والعشرين من فبراير ايضا، الذي ما ان يبدأ حتى تتطلق الاحتفالات والمهرجانات والانشطة ذات الصلة هنا وهناك، ويتسابق الجميع في المشاركة في الاعياد الوطنية تعبيرا وتأصيلا لمعنى الوطنية والارتباط بالوطن.
وبهذه المناسبة كتب الدكتور عجيل النشمي استاذ الشريعة في جامعة الكويت بحثا بعنوان «التأصيل الشرعي للمواطنة والعلاقة بين المواطنة والانتماءات القومية والعرقية والدينية» ركز فيه على تعريف الوطن ومعنى الوطنية والمواطنة والعلاقة بين الوطن والمواطن، مؤصلا لمعنى الوسطية في المواطنة والوطنية، عارجا على امور نشأ حولها لغط كثير وصدرت فيها فتاوى تُحرمها منها تحية العلم، موسيقى الجيش والقيام عند السلام الوطني، واخيرا حكم منم مات دفاعا عن وطنه.

ورفع الدكتور النشمي الالتباس الشرعي عن هذه الامور، مؤكدا او مرجحا جوازها ومؤيدا رأيه بما ورد في كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
ونعرض هنا لاجزاء من هذا البحث الموضوعي.
يعرف النشمي في بحثه معنى الوطن: يقال اوطن الأرض ووطنها وتوطنها واستوطنها، والوطن محل اقامة الانسان ولد به او لم يولد، فكل من استقر مقامه بأرض فهي وطنه لأنه ارتضاها ارضا وتوطنها بغض النظر عن دينه او اصله او جنسه او لونه، وهذا المعني العام تخصص معناه العلاقات السياسية اليوم، في ظل الظروف والقوانين والدساتير.
معنى الوطنية والمواطنة:
«الوطنية» تشير الى شعور الفرد بحبه لمجتمعه ووطنه، واعتزازه بالانتماء اليه، واستعداده للتضحية من اجله فالوطنية شعور قلبي ووجداني يُترجم في المحبة والولاء والميل والاتجاه الايجابي والدافعية الذاتية للعمل الخلاق الذي يستهدف رفعة الوطن.
اما مفهوم «المواطنة» فيشير الى الجانب السلوكي الظاهر المتمثل في الممارسات الحية التي تعكس حقوق الفرد وواجباته تجاه مجتمعه ووطنه، والتزامه بمبادئ المجتمع وقيمه وقوانينه، والمشاركة الفعالة في الانشطة والاعمال التي تستهدف رقي الوطن والمحافظة على مكتسباته.
حقوق وواجبات
ان كل حق يقابله واجب، وما لم يقم كل طرف بواجبه يتعذر ان يعطى حقه كاملا، فالدولة صاحبة السيادة يربطها وشعبها عقد الولاء والسيادة، وهو في الشريعة كما قال الماوردي: سياسة الناس في امور دينهم ودنياهم، فواجب الدولة رعاية مواطنيها، ومن هو مقيم على ارضها، والرعاية تعني توفير سبل العيش الكريم، من وظيفة ومسكن، وحياة كريمة، وينظم هذه العلاقة دستور وقانون.
ويقابل هذا الواجب على الدولة حقوق لها على مواطنيها ومن يقيم على ارضها، وهو الالتزام باحترام النظم والقوانين، والعمل الايجابي في غرس مفاهيم الوطنية، ونبذ العصبية ايا كان نوعها ما يعكر صفاء العلاقات، ويورث الخلاف والفرقة، وهما سبب من اهم اسباب تفكك المجتمعات، ومن ثم الاضطرابات والانقسامات، وهما أسرع طريق لانهيار الدول.
تأصيل معنى الوسطية
الكتاب والسنة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة وازكى التسليم يضعان اسس الوسطية بالمعنى المتوازن للوطن والوطنية الذي لا افراط فيه ولا تفريط، وفي هذا الصدد نعرض للآيات والاحاديث الدالة على المعنى المراد نصا او دلالة او ايماء. دون ان نحمل الآيات والأحاديث ما لا تحتمل.
المعنى الأول: أن الخروج من الوطن قهرا نصرة للدين من أعلى مراتب الإيثار: وذلك في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).
المعنى الثاني: أن من أخرج من وطنه يستحق نصرة الله له: وذلك في قوله تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
المعنى الثالث: حب الوطن والحفاظ عليه قرين حب النفس والخوف عليها من الهلاك: وذلك في قوله تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم ان اقتلوا انفسكم او اخرجوا من دياركم ما فعلوه الا قليل منهم).
المعنى الرابع: ان من حب الوطن الدعاء له بالأمن وسعة الرزق: ومن ذلك قوله تعالى: (وإذ قال ابراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق اهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الاخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير).
المعنى الخامس: اظهار الحب والشوق إلى الوطن: ومن ذلك ما روى انس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة- مرتفعات المدينة- أوضع- أسرع- ناقته وإن كانت دابة حركها».
المعنى السادس: اعلان الحنين إلى الوطن والتغني بحبه: ومن ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة وعك ابو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدك؟، ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله
والموت ادنى من شراك نعله
وكان بلال اذا اقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل ابيتن ليلة
بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة
وهل يبدون لي شامة وطفيل
قالت عائشة: فجئت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأخبرته فقال: «اللهم حبب الينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة».
المعنى السابع: حب ما في الوطن من معالم لها في النفوس ذكريات ومواقف: ومن ذلك ما ورد عن انس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى خيبر اخدمه فلما قدم النبي (صلى الله عليه وسلم) راجعا وبدا له أحد قال: «هذا جبل يحبنا ونحبه، ثم اشار بيده إلى المدينة قال اللهم اني احرم ما بين لابتيها كتحريم ابراهيم مكة اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا».
المعنى الثامن: الحث على ملازمة الوطن: ومن ذلك ما روي عن عبدالله بن عدي بن الحمراء الزهري اخبره انه سمع النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو واقف بالحزورة في سوق مكة فقال: «والله انك لخير ارض الله وأحب ارض الله إلى الله عز وجل ولولا اني اخرجت منك ما خرجت».
رفع الالتباس الشرعي
كثير من القضايا الوطنية نظن أنها منافية للشرع فيقع السؤال عنها، وسنختار بعض هذه المسائل وهي: تحية العلم، موسيقى الجيش والسلام الوطني عند سماعه، وأن من يقتل دفاعا عن الأرض لا يعد شهيدا ولا يستحق أجر الشهداء في الإسلام.
أولا: تحية العلم:
يستشكل بعض المواطنين شرعية الوقوف لتحية العلم سواء بالنسبة للجنود في الجيش، أو بالنسبة لوقوف الطلاب والطالبات في طابور الصباح، وما جعل السؤال أو الاستشكال جديرا بالنظر هو صدور فتاوى فردية وجماعية بتحريم تحية العلم - وليس اتخاذ العلم - واعتبار ذلك من البدع، بل منهم من قال ان تحية الرؤساء والزعماء من التشبه بالكفار. ومع احترامنا لهذه الفتاوى إلا ان الذي يظهر ان اتخاذ العلم رمزا للدول أمر عرفي، لا تخلو منه دولة اليوم، وقد كان العرب قبل الإسلام يرفعون الرايات ويحاربون دونها، وكان سقوط الراية اشارة إلى الهزيمة، وكانت الرايات في الإسلام بألوان مختلفة حسب القبائل فالجيش له راية بلون واحد وقد يكون لكل قبيلة لون يميزها. فلا تكاد تسقط حتى يحملها آخر ويكون حامل الراية هو القائد غالبا. وهكذا ظل هذا المعني راسخا في تاريخ الجهاد الإسلامي، بل هو يستند إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل اصحابه من بعده، حتى نص بعض الفقهاء على استحبابه في الجيش، فالعلم كان له نوع تقدير عندهم لما يرمز اليه من عزة وشموخ وطني لا لذاته أو لونه.
وأما الاحترام بالطريقة التي تصاحب أداء التحية برفع اليد بالسلام، أو ضعها على القلب، أو أي وضعية اخرى، لا يعني احترام أو تقديس قطعة القماش، وإنما احترام ما يرمز اليه، فهو رمز الوطن واحترامه بطريقة عرفية وليس فيها مظهر عبادي مثل الانحناء، فلا بدعة في ذلك، وإذا جاز تحية العلم، جاز من باب أولى التحية برفع اليد والانضباط من ذي الرتبة الأقل لمن هو أعلى منه في الجيش أو الشرطة.
اما إن كان الوقوف لمجرد سماع السلام الوطني فأرى كراهته، لعدم وجود ما يسوغه شرعا، وما خفف حكمه أنه عرف دولي لا صلة له بقوم أو عبادة. فمن فعله جاز ولكنه فعل خلاف الأولى.
وفيما يأتي بيان وتأصيل ما ذكرنا بالنسبة للراية وهي العلم أو اللواء والاهتمام به باعتباره رمزاً.
قال ابن اسحاق: - في معركة مؤتة - لما اصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا، قال ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الانصار، وظنوا انه قد كان في عبدالله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً.
وفي الصحيحين: ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فأعطاها عليا. وعن يزيد بن جابر الغفري عند ابن السكن قال: عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم رايات الانصار وجعلهن صفرا، وعن انس عند النسائي ان ابن أم مكتوم كانت معه راية سوداء في بعض مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم. ومن حديث كرز بن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه عقد راية بني سليم حمراء.
وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض.
ثانيا: موسيقى الجيش والقيام عند السلام الوطني:
الذي نراه في ذلك هو ان موسيقى الجيش والسلام الوطني وإن كان فيها بعض المعازف إلا ان تعلقها بمعالي الأمور ومقاصد الحماسة وعزة الوطن وأمجاده وجريان عرف الدولة بلزومه، فلا تخلو دولة منه. ذلك كله يرجع الحكم بجوازه خصوصا ان حكم المعازف أو الموسيقى المعهودة اليوم مختلف في حكمها بين الحرمة والكراهة والاباحة، ولولي الأمر حينئذ الرجيح بينها باختيار اهل الفتيا في بلده.
ولعل اقدم فتوى في جواز موسيقى الجيش الفتوى الواردة جوابا على طلب واصرار والي مصر على مسير قوات الجيش في مكة والمدينة بصحبة موسيقى الجيش. وهذا مقتطف منها:
«وبعد النظر وتقدير الظروف والزمن بما يناسبه ان الموسيقى يعتبرها فريق كبير من اهل نجد وغيرهم من الملاهي التي ان صح أن تكون مسلية للجند ومكملة لنظامهم في السير، فلا يليق ان تستعمل في أماكن العبادة مثل مكة ومنى وعرفات الأماكن التي يكثر فيها التلبية والذكر والنسك وأنا لا أحب ان تظهر حكومة مصر المحبوبة الا بالمظاهر المتفقة مع مكانتها في العالم الاسلامي، وليس لدي من مانع من استصحاب الموسيقى الى جدة.
وأما فيما يتعلق بالوقوف عند سماع السلام الوطني او الرئاسي المصاحب للموسيقى بنشيد أو بغير نشيد فان كان الوقوف مع دخول الرئيس أو الأمير أو الملك ونحوهم في المسميات، فلا بأس به لان القيام للحاكم العادل والعالم أو كرام أهل الفضل له أصل في الجواز الشرعي للقادم اذا كان بقصد، لحديث أبي سعيد الخدري: (ان أهل قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ - سيد الأوس - فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الى سعد، فأتاه على حمار، فلما دنا من المسجد، قال للأنصار: قوموا الى سيدكم أو خيركم).
قال النووي في شرح صحيح مسلم معلقا على هذا الحديث: فيه إكرام أهل الفضل، وتلقيهم القيام لهم، إذا أقبلوا، واحتج به جماهير العلماء لاستحباب القيام، قال القاضي عياض: وليس هذا من القيام المنهي عنه، وانما ذلك فيمن يقومون عليه، وهو جالس، ويمثلون قياما طوال جلوسه، واضاف النووي: قلت: القيام للقادم من أهل الفضل مستحب، وقد جاء فيه أحاديث، ولم يصح في النهي عنه شيء صريح.
ويستحب القيام لأهل الفضل كالوالدوالحاكم، لان احترم هؤلاء مطلوب شرعا وأدبا. وقال الشيخ وجيه الدين أبو المعالي في شرح الهداية: واكرام العلماء وأشراف القوم بالقيام سنة مستحبة. وقال ابن القيم: وقد قال العلماء: يستحب القيام للوالدين والامام العادل وفضلاء الناس، وقد صار هذا كالشعار بين الأفاضل. فإذا تركه الإنسان في حق من يصلح ان يفعل في حقه لم يأمن ان ينسبه الى الاهانة والتقصير في حقه، فيوجب ذلك حقدا.
وقد ورد (ان النبي صلى الله عليه وسلم كان اذا دخلت فاطمة عليه قام اليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم اذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها).
وورد عن محمد بن هلال عن أبيه انه قال: (ان النبي صلى الله عليه وسلم كان اذا خرج قمنا له حتى يدخل).
وورد عن أنس رضي الله عنه قال: لم يكن شخص أحب اليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهيته لذلك. الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
ثالثا: من مات دفاعا عن وطنه هل يعد شهيدا؟
اعتبار الشهادة مرهون بالنية، فمن مات في جيش بلد مسلم من مثل بلاد العرب والمسلمين اليوم، أعني تلك البلاد التي لا يطبق فيها الاسلام كاملا، فيحشر على نيته، فان كانت نيته من أجل التراب والأرض، ولم تتطلع نيته لأبعد من هذا فليس ذلك من أبواب الشهادة في شيء، ويبعد ان تكون نيته مجرد ذلك، فان صحب ذلك أمور أخر، فالشهادة بحسبها، فان كانت نيته اعلاء كلمة الله والاسلام فهي الدرجة العلا في الشهادة، وان مات وكانت النية متوجهة الى الدفاع عن المال، أو النفس، أو العرض والأهل فهو شهيد ان شاء الله. ثم ان الارض والوطن لا يمكن فصله عن ذلك فالدفاع عنها دفاع عن الوطن بلا ريب. ومصداق هذا ما ورد من أحاديث. فقد جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله. قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله».
وقال صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي