تجربة البنك خلال الاحتلال وصفتها «فاينانشال تايمز» بأنها «فريدة بكل المقاييس»

تحقيق / حكاية «الوطني»... الشاهد على «التحرير»

تصغير
تكبير
يختزن نائب رئيس المديرين العامين لبنك الكويت الوطني عصام الصقر في ذهنه ذكريات صعبة عن تعرضه للأسر ابان الغزو العراقي للكويت في العام 1990. لم يكن يحمل يومها سلاحاً، لكنه كان يعمل مع جنود مجهولين آخرين على تهريب ما هو أخطر؛ المعلومات عن ثروات الكويتيين وحساباتهم المصرفية!
قلة من الكويتيين يعرفون تفاصيل تلك المهمة المستحيلة التي أنجزت في أغسطس 1990، حين خلع «جنود» بنك الكويت الوطني ثياب الوظيفة الأنيقة، وخاضوا غمار أخطر مهمة بوليسية لتهريب السجلات الكاملة للبنك على أشرطة ممغنطة الى خارج الكويت. كانت المهمة مزدوجة، فمن جهة كان لا بد من ابعاد المعلومات عن أنظار المحتلين، ومن جهة أخرى كان البنك بأمس الحاجة لهذه السجلات ليتمكن من مواصلة نشاطه المصرفي كالمعتاد من فرعه في لندن.
كان ذلك التزاماً قلما تختبره البنوك، أن يحفظ الموظفون ما لديهم من أموال وأسرار ائتمنهم عليها العملاء والمودعون والمساهمون في غمرة الفوضى المطلقة لبلد واقع تحت الاحتلال. وكان الثمن الذي دفعه العديد من الموظفين الذين تعرضوا للأسر، ومن بينهم الصقر، كبيراً وضاغطاً.

اتخذت في ذلك الوقت اجراءات وممارسات لوجيستية وعملية معقدة لاتمام المهمة، وتم تحت جنح الظلام اخفاء الشرائط الممغنطة في مقاعد السيارات وتهريبها الى الخارج. وعن طريق البر، وخلال فترة وجيزة تمت استعادة هذه المعلومات عن نظام البنك على كمبيوتر خاص في فرع البنك في لندن. وما هي الا أيام حتى بدأ البنك بالعمل والوفاء بالتزاماته وادارة أمواله وأصوله. وفي مرحلة لاحقة بدأ البنك بجمع المعلومات بشكل كلي وإعادة تأسيس السجلات الخاصة بالمعاملات مع البنوك الأخرى (الانتربنك) للنظام المصرفي ككل.
أدار البنك عملياته المصرفية عبر البحار من لندن بكل ثقة واقتدار جعلته محل تقدير جميع الاوساط العالمية لايمانه الكامل بدوره الرئيسي والرائد في الاقتصاد الكويتي، فمنذ فجر اليوم الثاني من أغسطس عام 1990، وبمجرد انتشار خبر الغزو اجتمع مجلس ادارة البنك متمثلاً بكل من رئيس مجلس الادارة المغفور له محمد عبدالمحسن الخرافي، ونائب رئيس مجلس الادارة محمد عبدالرحمن البحر، والاعضاء ناصر مساعد الساير، وحمد عبدالعزيز الصقر، ويعقوب يوسف الحمد، وهم أعضاؤه الذين كانو لحسن الطالع متواجدين في لندن مع ادارته التنفيذية المتمثلة في رئيس المديرين العامين ابراهيم شكري دبدوب، واتخذوا قرارهم الاستراتيجي باستمرار العمل في العمليات المصرفية والالتزام بكل ما على البنك وما له من حقوق لدى الغير على أن تتم ادارة البنك من الخارج. وفي سبيل ذلك قامت ادارة البنك التنفيذية بالتنسيق مع البنوك العالمية لتسهيل القيام بالعمليات المصرفية لخدمة عملاء البنك داخل وخارج الكويت.
وأثناء فترة الغزو حرص البنك على أن تتم أعماله بشكل منتظم وصدرت بذلك الكثير من القرارات التنظيمية للفروع الداخلية كما استمر انعقاد مجلس الادارة بشكل دائم في لندن لضمان استمرار العمل والتنسيق بين الادارة العليا للبنك من جهة وبين فروعه والبنك المركزي الكويتي من جهة اخرى.
وقد شهدت هذه الفترة العصيبة تغيرات وتقلبات كبيرة في عرض النقد والنقد المتداول، حيث جمدت الارصدة المصرفية بشكل مفاجئ وبذلك تم الغاء او تجميد الجزء الاكبر من عرض النقود في الاقتصاد. وقد بدأ الاحتلال بتداول العملة الوطنية لفترة محدودة ثم قامت السلطات المعتدية بالغائها. وفي الوقت ذاته اي خلال شهر اكتوبر 1990، قامت السلطة الشرعية الكويتية بالغاء فئات معينة من العملة من قائمة النقد القانوني القابل للتداول. كما ان الغطاء القانوني للعملة قد تم سلب جزء منه وهو الذهب المخزون لدى بنك الكويت المركزي، بينما قامت السلطات النقدية والاقتصاية في الدول الاخرى بتجميد الموجودات الاجنبية - الكويتية.
تجربة غير مسبوقة
وكما يصف الخبراء والمراقبون من الجهات كافة، فإن مثل هذه التجربة تعد من اقسى واخطر ما يمكن ان يمر به اي بنك في العالم. ومن الصعوبة بمكان تخيل امكان قيام بنك بمهامه ومسؤولياته العادية في ظل وجود احتلال كامل للبلد الذي ينتمي اليه وفي ظل غياب الشرعية الحقيقية الرسمية للقيادة والحكومة الكويتية التي كانت تؤدي آنذاك وظائفها من الخارج. الا ان البنك الوطني كسر هذه القاعدة وضرب مثالا نادرا للتميز المصرفي والقدرة على تحدي اخطر واصعب المواقف. ليس ذلك فحسب، بل ضرب مثالا نادرا للشعور الوطني المسؤول وساهم بشكل فعال في دعم ومساندة الاقتصاد الوطني الكويتي اثناء هذه الازمة، واستطاع بنجاح الاستمرار والبقاء خلال ايام هذه الازمة الطاحنة بسبب بعد نظر مجلس ادارته وجهود ادارته التنفيذية المتواصلة اثناء وبعد الازمة، وهو ما ساهم في عودة البنك الوطني لطبيعته بشكل سريع بعد انقضاء هذه الغشاوة. حتى ان مجلة اقتصادية عالمية متخصصة هي «فاينانشال تايمز» ذكرت في سياق تناولها للازمة انه:
«للمرة الأولى في التاريخ يستطيع جسد مبتور عن رأسه ان يجعل كل أطرافه تعمل بتناسق وفعالية ونجاح!...» في تجسيد لما قام به البنك الوطني خلال محنة الغزو والاحتلال العراقي.
ومع بدايات اغسطس 1990 وفور انتشار خبر الغزو، استطاع اعضاء مجلس إدارة البنك وإدارته التنفيذية التحكم والسيطرة في عمليات البنك بشكل سريع حتى لا يتم التلاعب او التفريط في أي منها وذلك من خلال فرع البنك الوطني في لندن، ومن حسن الطالع تواجد عدد كبير منهم في لندن في ذلك الوقت.
وفي اول يوم للغزو اي في الثاني من اغسطس 1990 وفي تمام الساعة التاسعة صباحاً، انعقد اول اجتماع لمجلس ادارة البنك الوطني بعد الغزو في مكتب الإدارة بفرع لندن، واتخذ المجلس قراره بالاجماع بالاستمرار في اداء كافة العمليات المصرفية الخارجية. ومن نهاية ذلك اليوم، تم ابلاغ القرار إلى جميع البنوك المراسلة التي يتعامل معها البنك باستخدام نظام «سويفت» (SWIFT).
حدد المجلس في هذا اليوم اولوياته الأساسية والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية - كما تشير وثائق البنك السرية:
- ارساء ودعم فعالية البنك الكاملة وقوته المؤسسية خارج الكويت وتأكيد السيطرة على كافة أصول البنك خارج دولة الكويت.
- أداء كافة التزامات الوطني في وقتها المحدد.
- إدارة موقف البنك المالي من ناحية السيولة بكفاءة.
ومع مرور الأيام الأولى للمحنة، تعرضت أصول واستثمارات دولة الكويت حول العالم إلى التجميد نتيجة للقرارات والاجراءات التي اتخذتها الأمم المتحدة إلى جانب السلطات النقدية في هذه الدول التي كانت تحتضن عمليات او حسابات البنك، وكان الهدف الأساسي من هذه الاجراءات وقائياً في المقام الأول لمنع أي إساءة استخدام او استغلال للحصول على مكاسب غير شرعية ووقف أي مطالبات لحين التحقق من صحتها وشرعيتها.
وكانت اولى المهام امام البنك الوطني هو وقف تجميد اصول البنك الخارجية واقناع السلطات والجهات الرقابية والاجرائية المختلفة ان بنك الكويت الوطني ليس جهة حكومية او رسمية تمثل دولة الكويت - وربما جاء هذا الاختلاط بسبب اسم البنك - والتأكيد على ان البنك قد تمت السيطرة على كافة تعاملاته وعملياته من لندن. وقد تحقق ذلك سريعاً في مختلف المراكز المصرفية والمالية التي يتعامل معها البنك وحصل على حق التصرف الكامل لتحريك امواله وأصوله وصناديقه المختلفة. تحقق ذلك بعون من الله عز وجل وتوفيقه وبفضل الجهود الجبارة التي واصلت العمل ليلاً ونهاراً من أجل تحقيق هذا الهدف.
كان هدف الوطني العام هو الوفاء بالتزاماته وتعهداته العالمية مع المجتمع الدولي حفاظاً على سمعته ومكانته في الساحة المصرفية العالمية. وللقيام بذلك، اتخذ الوطني عدداً من الاجراءات الطارئة للتأكد من توافر السيولة الكافية للوفاء بهذه الالتزامات. ونجح باقتدار في هذه المهمة التي سهلت منها ميزانية البنك القوية ومتانة مركزه المالي الذي اعتمد على الأساسات التالية وفق وثائق البنك السرية ايضاً:
- الجودة الممتازة لاصول البنك العالمية، ففي خلال اسبوعين فقط من الغزو، تمكن البنك من بيع اصول بلغت نحو 2 مليار دولار اميركي بسعر جيد. في حين ان الاصول العالمية المتبقية والتي تعدت 5 مليارات دولار أميركي في ذلك الوقت كانت ذات جودة ائتمانية مرتفعة.
- استمرت السيولة المتمثلة في النقد وحسابات البنك في وضع مريح وباعث على الاطمئنان، وبلغت نحو مليار دولار أميركي حتى بعد دفع المبالغ الاساسية المعلقة لودائع الانتر بنك في فروع البنك ومكاتبه الخارجية.
ش- وجود قاعدة ودائع عملاء وفية وصلبة في فروع البنك الخارجية لم تتأثر بهذه الأحداث، حيث تعدت الودائع مبلغ 2 مليار دولار أميركي، وبالرغم من الاجواء غير المستقرة التي صاحبت هذه الفترة، فان قاعدة ودائع البنك ظلت مستقرة ومتوازنة بسبب ثقة عملاء الوطني بالبنك وادارته، وهو أمر يفخر الوطني به على مر السنين منذ عام 1952.
- كما أن تسوية المطالبات المستحقة وفق خطابات الائتمان وخطابات الضمان التي اصدرها الوطني من دولة الكويت لم تتأثر على نحو كبير.
- تمت تسوية عقود التحويلات الخارجية المستحقة والتي تجاوزت 10 مليارات دولار اميركي بشكل تام.
- دفع كافة الفوائد على التزامات الانتربنك المستحقة على بنك الكويت الوطني في الكويت.
تنسيق مع البنك المركزي
في اكتوبر 1990، تم التنسيق بين بنك الكويت المركزي وفرع البنك الوطني في لندن ليكون ممثلا له في تسوية التزامات الانتربنك لجميع البنوك الكويتية الاخرى، وكانت اصول جميع البنوك الكويتية قد تعرضت لاوامر تجميد خلال هذه الفترة وشمل ذلك جميع الحسابات التي لدى المؤسسات الكويتية.
ونجح بنك الكويت الوطني ان يكون المصرف الوحيد على مستوى الكويت الذي يحصل على استثناء لهذه القرارات فيما يتعلق بالاصول الخاصة بالبنك، حيث اثبت البنك للمسؤولين المختصين استقلالية هذه الاصول بشكل قاطع عما يدور في الكويت في هذه الفترة وسيطرته الكاملة على إدارة هذه الاصول بشكل فعال خارج الكويت.
كما قام البنك باستخدام وتطوير آلية خاصة لدفع الفوائد بالنيابة عن البنوك الكويتية فيما يتعلق بمعاملات الانتربنك المستحقة، وكذلك كافة تعاملات التحويلات الخارجية والتسوية النهائية لجميع الالتزامات المستحقة على البنوك.
ومنذ أن بدأت الضربة الجوية الأولى في الساعات الأولى من اليوم السابع عشر من يناير 1991، ايذاناً بتحرير أرض الكويت من الغاصبين، منذ تلك اللحظة كان بنك الكويت الوطني على أتم الاستعداد للعودة بطاقم عمله الكامل لفتح أبواب البنك وفروعه المنتشرة داخل الكويت لاستمرار خدمتهم للاقتصاد الكويتي كما هو شأنهم منذ التأسيس، ومن أهم انجازاته بعد التحرير واسهاما منه في اعادة اعمار الكويت قام البنك بتدبير قرض قيمته 5.5 مليار دولار لصالح حكومة دولة الكويت مما كان له عظيم الأثر في اعادة اعمار ما هدمه الغزو الغاشم.
تلك التجربة يعدها الخبراء المصرفيون قصة فريدة لم يشهدها أي بنك آخر في العالم. إلا أن البنك يسجلها محطة لها ما قبلها ولها ما بعدها.
فقد عايش بنك الكويت الوطني أهم الأحداث السياسية والاقتصادية التي مرت بتاريخ دولة الكويت، ولم يعاصر البنك الوطني أهم الاحداث التي مرت في تاريخ الكويت فقط بل شارك في صناعة احداثها لاسيما الجانب الاقتصادي منها.
الاستقلال
وقام بنك الكويت الوطني، الذي أسس في مايو من العام 1952، وافتتح ابوابه للعمل في نوفمبر من العام ذاته، بدور بارز في استبدال العملة المستخدمة في دولة الكويت مرتين متتاليتين خلال الفترة من 1959 الى 1961، فبعد استقلال الهند واصدارها لقرارات تنظيمية كان منها قرار ايقاف الخسائر الناجمة عن التصدير غير المصرح به للروبية الهندية الى منطقة الخليج، ففي شهر مايو من العام 1959 كان لبنك الكويت الوطني الدور الأساس في عملية استبدال الروبية الهندية واحلال الروبية الخليجية بدلاً منها وقد قام الوطني بهذا العمل بكل سهولة ويسر فقد قام البنك خلال ستة أسابيع فقط باستبدال ما يزيد على نصف اجمالي الروبيات المتداولة في الكويت، ومنذ أن بدأت الكويت في الحصول على استقلالها السياسي الذي أُعلن عنه رسمياً في يونيو عام 1961، حيث استبقت الكويت ذلك بسن القوانين ووضع الأسس لتكوين مؤسساتها السياسية والاقتصادية ومنها تأسيس مجلس النقد الكويتي الذي قرر أن يكون الدينار الكويتي هو العملة الرسمية للدولة، وهنا اضطلع بنك الكويت الوطني بدور البنك المركزي للدولة - وان لم يكن- ولعب الدور الرئيسي مرة أخرى في عملية استبدال العملة حيث قام بسحب الروبية الخليجية من التداول واستبدالها بالدينار الكويتي فقد ساهم البنك بشكل فعال في سحب أوراق نقد ومسكوكات معدنية بلغت قيمتها نحو 341.971.146 روبية خليجية مقابل 25.647.836 دينارا كويتيا، حيث أتم الوطني عملية الاستبدال بكل سهولة ويسر مستفيداً في ذلك من خبرته السابقة في عملية استبدال الروبية الهندية.
هكذا يتذكر بنك الكويت الوطني من خلال وثائقه تلك الوقائع التاريخية والأحداث التي شارك فيها البنك كعضو فاعل له بصمته الواضحة على الاقتصاد الكويتي في كل مراحله التاريخية.
تجدر الإشارة إلى أن بنك الكويت الوطني يحتفظ في أرشيفه بمجموعة قيّمة من الوثائق والسجلات التي تؤرخ لفترة مهمة من تاريخ الكويت الاقتصادي والمالي منذ عام 1952، كما تؤرخ في الوقت ذاته لكبار رجالات الكويت وتجارها والذين قامت على أكتافهم اللبنات الأولى لنهضة الكويت الحديثة.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي