أماكن / من فوق المنبر

جمال الغيطاني


| جمال الغيطاني |
صحن جامع الأزهر... المنبر... جمال عبدالناصر، ثلاثة عناصر لمكان واحد، أحيانا يصبح الانسان مكانا، بالنسبة لي يبدو عام ستة وخمسين بعيدا جدا الآن.
يرتبط عندي بالشتاء، بالبرد، بتأجج المشاعر الوطنية البكر... كنا نقطن دربا عريقا من دروب القاهرة القديمة، «الدرب الأصفر»... الواصل بين شارع الجمالية وشارع المعز لدين الله، «شارع الجمالية»... حيث يقوم في مواجهة الدرب بناء رائع يضم خانقاه بيبرس الجاشنكير، التي شيدت في العصر المملوكي، وينتهي الدرب من الجهة الأخرى الى مدخل حارة بيرجوان، التي كان يقيم بها المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي، فبيت السحيمي الشهير.
ما بين الدرب الأصفر، وجامع الأزهر... مرورا بميدان الحسين... عشت أحداث العدوان الثلاثي على مصر، وتأججت مشاعري بالوطنية، وكان محورها الزعيم جمال عبدالناصر الذي تحول الى رمز، الى زعيم ليس لمصر فقط، انما للعالم العربي، ولجميع حركات التحرر الوطني في العالم.
الغارات الليلية
ما أكثر اللحظات التي طواها الفناء، قليلة تلك المشاهد التي احتفظت بها الذاكرة، رغم ثراء الأيام، تلك الليالي الطويلة التي كانت تتضام خلالها الأسرة بأكملها في صالة الشقة الصغيرة التي تقع بالطابق الأول، وبالتالي لم تكن هناك حاجة الى اللجوء الى الطابق الأسفل، كانت الغارات الجوية عنيفة، وأزيز الطائرات يمزق صمت الليل، وكانت الانفجارات الهوائية تسمع من ناحية العباسية... حيث معسكرات القوات المسلحة، كان المذياع يبث البيانات العسكرية، والأغاني الوطنية، أجمل ما عرفته مصر من أناشيد في تاريخها الحديث:
نشيد الله أكبر... «انشاد المجموعة»
نشيد والله زمان يا سلاحي... «أم كلثوم»
نشيد دع سمائي... «فايدة كامل»
والعديد من الأناشيد الأخرى التي صاغت وجداننا، والتي انبثقت من المشاعر العميقة للفنانين والأدباء معبرة عن الوجدان الوطني للناس، والغريب أن حربا وطنية كبرى جرت بعد ذلك، وعشت أحداثها - أعني حرب أكتوبر - الا أنها لم تسفر عن أغنية وطنية واحدة تهز المشاعر مثل تلك الأغاني الرائعة لعام ستة وخمسين.
عناوين الصحف منقوشة بحدة في ذاكرتي، معارك سيناء، بورسعيد دفعت ضريبة الدم، سنقاتل... سنقاتل، بدءا من التاسع والعشرين من أكتوبر بدأت تتردد أسماء مواقع على أراضي سيناء، «الكونتيللا، أبوعجيلة، القسيمة، بير تمادة، نخل»، لقد جرت معارك عنيفة ضد القوات الاسرائيلية، ولكن معارك الجيش المصري ذابت في اطار قرار الانسحاب، الذي تكرر مرة أخرى بعد أحد عشر عاما، ولكن مع اختلاف المناخ، فقد جرى في ستة وخمسين قتال، وتصد، وانتفض الشعب كله متأهبا لمعركة كبرى، ولم تسر روح الهزيمة، كما يحاول بعض المؤرخين الرسميين أن يصوروا الأمر في كتابات ظهرت أخيرا في مصر بعد عرض فيلم «ناصر 56».
مؤرخون دأبوا على تشويه الزمن الناصري وجميع ما يمت اليه لحساب قوى معينة في الغرب، ولحساب اسرائيل بالطبع، ورغم كل ما كتبوه فانهم لم يصلوا الى مثل صورة عبدالناصر في قلوب الشعب المصري الذي انحاز الى جمال عبدالناصر.
لسبب بسيط ان عبدالناصر كان معبرا عنهم، وللشعب في مصر درجة رفيعة من الادراك والوعي، بعد هزيمة الثورة العرابية، ونفي أحمد عرابي باشا ورفاقه الى جزيرة سيلان، شنت ضده حملة على جميع المستويات، طالت مناهج التعليم.
حُجب اسم عرابي، واتهم بالدروشة والجهل، وهاجمه المؤرخون المناوئون مثل عبدالرحمن الرافعي، ولم ينصفه أحد لأكثر من نصف قرن، الى أن ظهر عام سبعة وأربعون كتاب للمؤرخ محمود الخفيف بعنوان «عرابي الزعيم المفترى عليه»، وسرعان ما صودر، طوال هذه السنوات وحتى انصاف عرابي بعد ثورة يوليو كان موقعه في الضمير الوطني موقع البطل، وكانت منزلته منزلة الزعيم، أما وقفته في ميدان عابدين فكانت تروى كاحدى لحظات الملاحم، ومن العبارات التي لاتزال تتردد في الريف المصري حتى الآن:
هوجة عرابي «هوجة بمعنى ثورة»
الولس هزم عرابي «الولس أي الخيانة»
هذا الدرس بالغ الدلالة لم يستوعبه أولئك الكتبة حتى الآن، ولاتزال منزلة عبدالناصر باقية، سليمة، بل انها تتعمق وتتوطد.
في الأزهر
كنت في الحادية عشرة، وكنت تواقا الى المشاركة في المعركة، أقطع المسافة من الدرب الأصفر الى مدرسة الحسين الاعدادية وداخلي يغلي، وأفكاري تتسارع ومشاعري ملتهبة، كيف السبيل الى المشاركة؟
كنت أرسم الجنود مرتدين الخوذ كما أراهم في الصحف، وكنت أرسم خريطة سيناء، وخريطة قناة السويس، والعلم المصري، غير أن هذا لم يهدئني، فزعمت لصحبي في المدرسة أن أحد أقاربنا يحارب الآن في قناة السويس، وأنه يمت بصلة أبناء العمومة الى أبي، بالطبع كان لنا أقارب كثيرون في القوات المسلحة.
فكل من ينتمي الى «جهينة» أعده من أقاربي، هكذا منطق العلاقات في القبائل العربية الكبرى التي نزلت صعيد مصر، ومنها جهينة التي أنتمي اليها، كانت كذبتي البيضاء هذه تجعلني أوهم نفسي بالمشاركة من خلال هذا القريب المتخيل.
كانت أياما رائعة بحق، وخلالها تعلمت أن هَمَّ الوطن العام أرفع مرتبة عندي من الهم الخاص... من اللحظات المؤثرة التي أحتفظ بها، لحظة تلت صلاة الجمعة في مسجد الامام الحسين، عند خروجي بصحبة أبي، كان هناك المئات يصطفون في الميدان يمسكون البنادق من طراز «لي أنفيلد»، أفراد المقاومة الشعبية التي تشكلت بعد بدء العدوان.
لا أزال أذكر رجلا في سن الشباب يرتدي جلبابا وسترة جلدية، كان يلتفت ناحيتنا ويسند يده الى البندقية المرتكزة الى الأرض.
من هو؟... وأين هو الآن؟
لماذا علق بذهني وجهه، ملامحه هو بالذات، كم من الملامح تعلق بالذاكرة خلال رحلة الحياة، ثم تنطوي معظمها مع المراحل، ويبقى بعضها، ما القانون المنظم لذلك؟ لا أدري... ولكنني لا أستعيد تلك الأيام الا وأتذكر هذا الوجه، أدق قسماته وكأني أراه أمامي.
اللحظة الثانية... هي مجمل لحظات، يوم جمعة أيضا، أظنه «الجمعة» اللاحق، كان ذلك في مسجد الأزهر، وكان ما بيني وبين جمال عبدالناصر لا يزيد على خمسة أو ستة أمتار، كنت بصحبة الوالد وشقيقي اسماعيل في مقدمة الصفوف الأمامية، اعتلى عبدالناصر المنبر، وكان يرتدي حلة رمادية غامقة كان مهيبا، نفاذ الحضور، ولعينيه لمحة، ولملامحه القدرة على اقناع كل من يتطلع اليه أنه ينظر اليه هو، انه يخصه هو بالذات.
اختار جمال منبر الأزهر التاريخي، العريق... ليعلن من فوقه الجهاد، لاأزال أذكر هدير صوته: «سنقاتل... سنقاتل... سنقاتل».
كررها ثلاث مرات، وأعلن أن أسرته في القاهرة، لم ترحل الى أي مكان، وأنه باقٍ، وأنه سيقاتل وسيدفع العدوان.
سرت كلماته الى الأفئدة، الى القلوب، الى جوهر التاريخ، يرتبط منبر الأزهر بالجهاد، بأفئدة القوم، وما هذه الهمهمة وتلك الهتافات التي سرت بين الناس الا تعبير آت من عصور شتى.
لحظة ثمينة من عمري... أحتفظ بها، وأستدعيها في أوقات الشدة، والوحشة، انها المرة الوحيدة التي رأيته من خلال هذا القرب، من خلال تلك المسافة، لم أره بعد ذلك الا من موقع الجماهير الواقفة في المواكب، أو من خلال قاعات المؤتمرات، وعلى مسافة أكبر عند زيارته الأخيرة لجبهة القتال سنة سبعين وتسعمائة وألف، وكنت في ذلك الوقت مراسلا حربيا لجريدة الأخبار، أمكث في الجبهة الأيام الطوال، وتصادف وجودي في قطاع الجيش الثاني بالاسماعيلية عند زيارة عبدالناصر المفاجئة، وكنت الصحافي الوحيد الذي كتب عن هذا اللقاء الفريد، أستعيد لحظة وقوفه فوق منبر الأزهر وأذكر بدهشة قُرب الناس منه واحاطتهم به عند خروجه، وقلة رجال الحرس، بل انني لا أذكر وجه أحدهم، كان الناس يحيطونه، وبعضهم يصافحه، وكانت مصر تتألق في لحظة فريدة من تاريخها.
رسائل اليه
لحظات شتى أستعيدها عند المضي الى ضريحه لزيارته... هذه المرة حرصت على المضي مبكرا، بعد أن قرأت الفاتحة تحدثت الى أصدقاء من القائمين على شؤون الضريح، أخبروني عن ظاهرة جديدة بدأت السنوات الأخيرة، ظاهرة الرسائل التي يشيعها بعض أبناء الشعب المصري الى جمال عبدالناصر «هكذا بلا ألقاب أحيانا، أو مسبوقة بلقب سيدي في خطابا أخرى»... رحت أفكر... من يبادر الى ارسال هذه الخطابات؟
هل هم بعض من عاشورا زمنه مثلي؟، هل هم بعض من يحنون الى صوته، الى حضوره، الى تأثيره، الى ما يرمز اليه من المعاني؟، هل هم بعض المظلومين المنكسرة قلوبهم؟... وجدت نفسي أجيب: انهم هؤلاء جميعا... انه حنين الأمة الى قائدها الراحل.
صحن جامع الأزهر... المنبر... جمال عبدالناصر، ثلاثة عناصر لمكان واحد، أحيانا يصبح الانسان مكانا، بالنسبة لي يبدو عام ستة وخمسين بعيدا جدا الآن.
يرتبط عندي بالشتاء، بالبرد، بتأجج المشاعر الوطنية البكر... كنا نقطن دربا عريقا من دروب القاهرة القديمة، «الدرب الأصفر»... الواصل بين شارع الجمالية وشارع المعز لدين الله، «شارع الجمالية»... حيث يقوم في مواجهة الدرب بناء رائع يضم خانقاه بيبرس الجاشنكير، التي شيدت في العصر المملوكي، وينتهي الدرب من الجهة الأخرى الى مدخل حارة بيرجوان، التي كان يقيم بها المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي، فبيت السحيمي الشهير.
ما بين الدرب الأصفر، وجامع الأزهر... مرورا بميدان الحسين... عشت أحداث العدوان الثلاثي على مصر، وتأججت مشاعري بالوطنية، وكان محورها الزعيم جمال عبدالناصر الذي تحول الى رمز، الى زعيم ليس لمصر فقط، انما للعالم العربي، ولجميع حركات التحرر الوطني في العالم.
الغارات الليلية
ما أكثر اللحظات التي طواها الفناء، قليلة تلك المشاهد التي احتفظت بها الذاكرة، رغم ثراء الأيام، تلك الليالي الطويلة التي كانت تتضام خلالها الأسرة بأكملها في صالة الشقة الصغيرة التي تقع بالطابق الأول، وبالتالي لم تكن هناك حاجة الى اللجوء الى الطابق الأسفل، كانت الغارات الجوية عنيفة، وأزيز الطائرات يمزق صمت الليل، وكانت الانفجارات الهوائية تسمع من ناحية العباسية... حيث معسكرات القوات المسلحة، كان المذياع يبث البيانات العسكرية، والأغاني الوطنية، أجمل ما عرفته مصر من أناشيد في تاريخها الحديث:
نشيد الله أكبر... «انشاد المجموعة»
نشيد والله زمان يا سلاحي... «أم كلثوم»
نشيد دع سمائي... «فايدة كامل»
والعديد من الأناشيد الأخرى التي صاغت وجداننا، والتي انبثقت من المشاعر العميقة للفنانين والأدباء معبرة عن الوجدان الوطني للناس، والغريب أن حربا وطنية كبرى جرت بعد ذلك، وعشت أحداثها - أعني حرب أكتوبر - الا أنها لم تسفر عن أغنية وطنية واحدة تهز المشاعر مثل تلك الأغاني الرائعة لعام ستة وخمسين.
عناوين الصحف منقوشة بحدة في ذاكرتي، معارك سيناء، بورسعيد دفعت ضريبة الدم، سنقاتل... سنقاتل، بدءا من التاسع والعشرين من أكتوبر بدأت تتردد أسماء مواقع على أراضي سيناء، «الكونتيللا، أبوعجيلة، القسيمة، بير تمادة، نخل»، لقد جرت معارك عنيفة ضد القوات الاسرائيلية، ولكن معارك الجيش المصري ذابت في اطار قرار الانسحاب، الذي تكرر مرة أخرى بعد أحد عشر عاما، ولكن مع اختلاف المناخ، فقد جرى في ستة وخمسين قتال، وتصد، وانتفض الشعب كله متأهبا لمعركة كبرى، ولم تسر روح الهزيمة، كما يحاول بعض المؤرخين الرسميين أن يصوروا الأمر في كتابات ظهرت أخيرا في مصر بعد عرض فيلم «ناصر 56».
مؤرخون دأبوا على تشويه الزمن الناصري وجميع ما يمت اليه لحساب قوى معينة في الغرب، ولحساب اسرائيل بالطبع، ورغم كل ما كتبوه فانهم لم يصلوا الى مثل صورة عبدالناصر في قلوب الشعب المصري الذي انحاز الى جمال عبدالناصر.
لسبب بسيط ان عبدالناصر كان معبرا عنهم، وللشعب في مصر درجة رفيعة من الادراك والوعي، بعد هزيمة الثورة العرابية، ونفي أحمد عرابي باشا ورفاقه الى جزيرة سيلان، شنت ضده حملة على جميع المستويات، طالت مناهج التعليم.
حُجب اسم عرابي، واتهم بالدروشة والجهل، وهاجمه المؤرخون المناوئون مثل عبدالرحمن الرافعي، ولم ينصفه أحد لأكثر من نصف قرن، الى أن ظهر عام سبعة وأربعون كتاب للمؤرخ محمود الخفيف بعنوان «عرابي الزعيم المفترى عليه»، وسرعان ما صودر، طوال هذه السنوات وحتى انصاف عرابي بعد ثورة يوليو كان موقعه في الضمير الوطني موقع البطل، وكانت منزلته منزلة الزعيم، أما وقفته في ميدان عابدين فكانت تروى كاحدى لحظات الملاحم، ومن العبارات التي لاتزال تتردد في الريف المصري حتى الآن:
هوجة عرابي «هوجة بمعنى ثورة»
الولس هزم عرابي «الولس أي الخيانة»
هذا الدرس بالغ الدلالة لم يستوعبه أولئك الكتبة حتى الآن، ولاتزال منزلة عبدالناصر باقية، سليمة، بل انها تتعمق وتتوطد.
في الأزهر
كنت في الحادية عشرة، وكنت تواقا الى المشاركة في المعركة، أقطع المسافة من الدرب الأصفر الى مدرسة الحسين الاعدادية وداخلي يغلي، وأفكاري تتسارع ومشاعري ملتهبة، كيف السبيل الى المشاركة؟
كنت أرسم الجنود مرتدين الخوذ كما أراهم في الصحف، وكنت أرسم خريطة سيناء، وخريطة قناة السويس، والعلم المصري، غير أن هذا لم يهدئني، فزعمت لصحبي في المدرسة أن أحد أقاربنا يحارب الآن في قناة السويس، وأنه يمت بصلة أبناء العمومة الى أبي، بالطبع كان لنا أقارب كثيرون في القوات المسلحة.
فكل من ينتمي الى «جهينة» أعده من أقاربي، هكذا منطق العلاقات في القبائل العربية الكبرى التي نزلت صعيد مصر، ومنها جهينة التي أنتمي اليها، كانت كذبتي البيضاء هذه تجعلني أوهم نفسي بالمشاركة من خلال هذا القريب المتخيل.
كانت أياما رائعة بحق، وخلالها تعلمت أن هَمَّ الوطن العام أرفع مرتبة عندي من الهم الخاص... من اللحظات المؤثرة التي أحتفظ بها، لحظة تلت صلاة الجمعة في مسجد الامام الحسين، عند خروجي بصحبة أبي، كان هناك المئات يصطفون في الميدان يمسكون البنادق من طراز «لي أنفيلد»، أفراد المقاومة الشعبية التي تشكلت بعد بدء العدوان.
لا أزال أذكر رجلا في سن الشباب يرتدي جلبابا وسترة جلدية، كان يلتفت ناحيتنا ويسند يده الى البندقية المرتكزة الى الأرض.
من هو؟... وأين هو الآن؟
لماذا علق بذهني وجهه، ملامحه هو بالذات، كم من الملامح تعلق بالذاكرة خلال رحلة الحياة، ثم تنطوي معظمها مع المراحل، ويبقى بعضها، ما القانون المنظم لذلك؟ لا أدري... ولكنني لا أستعيد تلك الأيام الا وأتذكر هذا الوجه، أدق قسماته وكأني أراه أمامي.
اللحظة الثانية... هي مجمل لحظات، يوم جمعة أيضا، أظنه «الجمعة» اللاحق، كان ذلك في مسجد الأزهر، وكان ما بيني وبين جمال عبدالناصر لا يزيد على خمسة أو ستة أمتار، كنت بصحبة الوالد وشقيقي اسماعيل في مقدمة الصفوف الأمامية، اعتلى عبدالناصر المنبر، وكان يرتدي حلة رمادية غامقة كان مهيبا، نفاذ الحضور، ولعينيه لمحة، ولملامحه القدرة على اقناع كل من يتطلع اليه أنه ينظر اليه هو، انه يخصه هو بالذات.
اختار جمال منبر الأزهر التاريخي، العريق... ليعلن من فوقه الجهاد، لاأزال أذكر هدير صوته: «سنقاتل... سنقاتل... سنقاتل».
كررها ثلاث مرات، وأعلن أن أسرته في القاهرة، لم ترحل الى أي مكان، وأنه باقٍ، وأنه سيقاتل وسيدفع العدوان.
سرت كلماته الى الأفئدة، الى القلوب، الى جوهر التاريخ، يرتبط منبر الأزهر بالجهاد، بأفئدة القوم، وما هذه الهمهمة وتلك الهتافات التي سرت بين الناس الا تعبير آت من عصور شتى.
لحظة ثمينة من عمري... أحتفظ بها، وأستدعيها في أوقات الشدة، والوحشة، انها المرة الوحيدة التي رأيته من خلال هذا القرب، من خلال تلك المسافة، لم أره بعد ذلك الا من موقع الجماهير الواقفة في المواكب، أو من خلال قاعات المؤتمرات، وعلى مسافة أكبر عند زيارته الأخيرة لجبهة القتال سنة سبعين وتسعمائة وألف، وكنت في ذلك الوقت مراسلا حربيا لجريدة الأخبار، أمكث في الجبهة الأيام الطوال، وتصادف وجودي في قطاع الجيش الثاني بالاسماعيلية عند زيارة عبدالناصر المفاجئة، وكنت الصحافي الوحيد الذي كتب عن هذا اللقاء الفريد، أستعيد لحظة وقوفه فوق منبر الأزهر وأذكر بدهشة قُرب الناس منه واحاطتهم به عند خروجه، وقلة رجال الحرس، بل انني لا أذكر وجه أحدهم، كان الناس يحيطونه، وبعضهم يصافحه، وكانت مصر تتألق في لحظة فريدة من تاريخها.
رسائل اليه
لحظات شتى أستعيدها عند المضي الى ضريحه لزيارته... هذه المرة حرصت على المضي مبكرا، بعد أن قرأت الفاتحة تحدثت الى أصدقاء من القائمين على شؤون الضريح، أخبروني عن ظاهرة جديدة بدأت السنوات الأخيرة، ظاهرة الرسائل التي يشيعها بعض أبناء الشعب المصري الى جمال عبدالناصر «هكذا بلا ألقاب أحيانا، أو مسبوقة بلقب سيدي في خطابا أخرى»... رحت أفكر... من يبادر الى ارسال هذه الخطابات؟
هل هم بعض من عاشورا زمنه مثلي؟، هل هم بعض من يحنون الى صوته، الى حضوره، الى تأثيره، الى ما يرمز اليه من المعاني؟، هل هم بعض المظلومين المنكسرة قلوبهم؟... وجدت نفسي أجيب: انهم هؤلاء جميعا... انه حنين الأمة الى قائدها الراحل.