قلم أحمر / معاناتي مع مرض السرطان

تصغير
تكبير
|  تكتبها : ليلى أحمد  |
لم تكن «كريمة» في ذاكرتي الا روحا طائرة ترفرف بعقلها النابه عاليا، تسبح حواراتنا الشقية والخفيفة الظل في فضاء أفكارنا التى تلتقي في خطوط وتتعارض في خطوط اخرى وهذا امر يهمني، فأنا اكره التطابق التام بين اثنين، انه أمر يدفع للملل، عند «كرومه» حنان غير عادي يؤسر كل من يعرفها، شحنات فرح حقيقي ونشاط وحيوية، تتسرب اليك، ولديها صفة طريفة هي انها تتحدث بسرعة شديدة وتطلق ضحكاتها اسرع، وكأن لا وقت لديها لإضاعته، وكأن حنان قلبها يخشى ان تختفي من أمامها، وهي تريد قول كل شيء، وتمتاز بوجه حلو التقاطيع مبتسم يلاقي الجميع بكل الحب.
فرقتنا الكثير من انشغالات الحياة.. تقاطعنا وفي قلوبنا تجاه بعضنا كل الودّ، مسارات اعمالنا وحياتنا العائلية اخذتنا، حتى غرقت كل واحدة منا في رمال القضاء المتحرك، تصلني أسئلتها الدائمة عني وعن أولادي، وافعل نحوها ذات الشيء، وعن طريق أصدقاء مشتركين كنا نتبادل من على بعد الكثير من التحيات والسلامات، بيني وبين الصديقة المصرية كريمة العجمي أشرطة من الفرح الملون. وبالونات بهجة.
في لحظة كنت أنهي بها اجتماع عمل، وقلقة لموعد لا اريد التأخير عنه بالمطار لاستقبال ابنتي العائدة من الولايات المتحدة الاميركية، الموبايل يرن... الرقم أرضي غريب، افتح الخط على عجل... مخي مكركب، والظرف حولي يحارب التركيز، الصوت أليف... عيناي على الساعة... الاجتماع انتهى..
• ليلــى انـا كريمة
- اوووووه ياحلوك كنت في البال من يومين.. هلا والله.. ساهاتفك بس اطلع من المكان الذي أنا به
• حسنا.. هذا الرقم الذي ظهر لك،من مستشفى حسين مكي جمعة بالشويخ - وهو خاص بمرضى السرطان
- إففففففففففففف.. معقوووول..
في يوم آخر، كنت استعد لزيارتها، نفس ذاك النهار، قضيته في القراءة، جمعت كل ما املك من كتب تمنحني شحنات قوة ايجابية لاكون قادرة على منحها لها... الكثير من الدراسات في علم النفس، الكثير من الاوراق والقصاصات عن حالات مشابهة، ونصائح الخبراء في كيفية التعاطي معها، وكيف يمكنني إعطاءها جمالا يساوي ما منحته لي في لحظاتنا المشتركة.
***
خطوة بخطوة في رواق مستشفى مكي جمعة
تقودني خطواتي الى ممرات كئيبة تزداد كآبتها بأضواء النيون الرخيصة، طلاء الجدران يقتل كل نفس حية، أعجل أكثر، لكي أرى عينيها الضاحكتين.. يارب انشالله ما ذبلوا
المصعد الكهربائي عطلان، وكالعادة.. الصيانة ابلغتهم بخبر وفاة المصعد، ولا توجد ميزانية لتركيب مصعد جديد، حكومة البترول، لا تملك مالا - ماشالله- لإصلاح عطل بالمصاعد الكهربائية في مرفق حيوي كمستشفى السرطان.«هذا احنا الصاحيين نأخذ عدوى النفسية السرطانية من هذه الاجواء الذابحة لروحنا»
***
الهيئة التمريضية تتقافز، حاملة اجساد تعبة للصعود او الهبوط، بأيدي بعضهن صينية العقاقير الطبية، واخرى تحمل «الدرب» البلاستيكي لتلحق به أحد الغرف.
سألت احداهن:.. كيف تنقلون المرضى لغرفة العمليات في الطرف الاخر أو في الدور الثاني البعيد عن هنا من المستشفى، او لمنح أحدهم علاجا كيماويا هو بحاجة اليه.
ابتسمت الممرضة بخجل، وكأنها صاحبة الذنب في خراب المصعد
اجابتني: ننقله يدويا على النقالات ولمسافات طويلة وهو يئن من الالم.. حتى نصل به لغرفة العمليات او احدى غرف الاشعاعات الكيماوية
- حسنا.. هل المرضى يلعبون مصارعة حرة وفي كامل عافيتهم ليتم نقلهم يدويا على نقالة نوم محمول على ايدي عمال التنظيف الاسيوية، النحيلة اصلا لينقلوه الى غرف العلاج.
خجلت بنت الناس الطيبة أكثر.. وقالت: ماذا نفعل، هذا هو الموجود..!!
ماشالله على بلاد العز.. الانسان أرخص من استقطاع ميزانية لعلاج حالة المصعد الميت.
السلم مزدحم بالزوار، رجال كبار في السن يحملون عمر شيخوختهم لزيارة أحبتهم، كيف للناس باختلاف اعمارهم أن يتعذبوا في زيارة مريضهم، هذا بعلم إدارات الصيانة والتنمية والتطوير لاجهزة المستشفيات.
***
سلم واحد
ثلاثة سلالم.. عالية
خمسة وضيقة الممرات
عشرااااااات السلالم
ومنها الصعود للدور الثاني / نساء.
امام باب الغرفة وقفت كنت اقرأ لوحة أرقامها، صوتها من خلف الباب يهتف لي
• ليلي تعالي
كيف أحستني كريمة... وعرفت اني خلف بابها، لا بد انها طاقة روحها المذهلة
****
لا شيء يفضحني مثل عينيَّ، هما ترمومترا مشاعري
احتضنتها وهي في سرير المرض، لم انظر في بؤبؤيّ عينيها
جلست قبالتها لاستمع اليها، عيناي تلفان في فضاء الغرفة حولها، مازالت كريمة كما هي بضحكاتها الطائرة.. وكلماتها السريعة التي تنطلق بسرعة.. كسرب حمام!
حقل من الياسمين الطبيعي هي كريمة.
حتما ستقول لي: لماذا لا تنظرين الي..؟
هي لا تعرف ربما اني امام جلال الهزيمة، أخجل... من فعل الهزائم ولا انظر لمرآتي/ كريمة التى ستكشفني حتما
للمرض جلال... كما الموت حق
***
كريمة التي لم تتوقف عن الضحك، والتغزل برشاقتي ووجهي، طيرت صواب كل ما قرأت من سطور طويلة مصفوفة في كتب ودراسات وابحاث، أنا التي في كامل صحتي ابدو منتكسة لأجلها، وهي بروحها الرائعة مقاتلة ضد التأكسد وعجيبة التفاؤل، وفوق هذا وذاك فهي التى «تواسيني» لكي لا أزعل على حالتها، وتسرد آمال الخروج من المستشفى وخططها الجديدة بعد ان تعود لحياتها الطبيعية.
هي التي انتزعت منها احدى كليتيها، وتعالج من آثار مرضية صعبة أخرى، بدت لي كطاقة الحياة المبروكة بروحها، مازالت مصرة على أن تضحكني بقفشاتها العذبة وتعليقاتها اللاذعة.. وتريد بإصرار ان تعرف اخباري الجديدة.
داهمتني: لوّلوّة ايه أخبار حديقة قلبك..!
حذفت من فكري كل ما قرأت، وأخذت مع هذه الصديقة بنت اللذيذة نحكي ونتبادل الاخبار، ونتذكر رحلتنا لبيروت والمزيد من الاخبار الجديدة والاحلام التي لا تهدأ في عقلي..
ارتفعت قهقات ضحكاتنا عاليا، فبالروح والايمان والقبول والرضى بقدر الصحة والتفاؤل بعافية آتية، نسدد القبضات لهزيمة.. الجسد !
***
غير كريمة.. منحهم الله جلت قدرته الصحة.. والاوضاع المالية المستقرة، ونادرين الهموم الحقيقية، تسندهم قلوب محبة، مع هذا يتكاسلون في دفع قدرات الحياة في دمائهم، لمنحها لمن حولهم، لا يكفون عن التأفف.. والشكوى المستمرة، والتقطيبة التي تترك بصماتهم على الجباه، وحسد الآخرين، يفتقدون نعمة العافية التي لا يطولها المرض. إنهم يعيشون أزمة سرطان الروح السقيمة، وهذا لا علاج له ولا حتى ببؤس مستشفى حسين مكي جمعة للاورام الخبيثة.
ما أبدعك يا كريمة.. وسلامااااااات يا نهار القلب وبنوتة الايام المشمسة والجميلة.


مزااااج

هل قلت اشتقت لي وستقتحم بيتي اذا تعال عالبيت، سأكون بالخارج اشرب فنجان قهوتك التركية السادة مع قطعة شكولاة باتشي او بسكويت مسكر، اقلب محطات فضاء عارضات الازياء والـ بي بي سي العربية. تعا للبيت... القط كتابا من مكتبتي حتى أنتهي من فحوصات والدي، ستستمر في قراءة سطورك وانا ادفعه عالـ «ويل جيير» باتجاه مختبر تحاليل الدم... خلك بالبيت، اكتب نصك المتعب النائم في خدر كسلك، وسأذهب للمطار لاستقبال صديقتي في الثانية والنصف ظهرا... حياك الله و«هلا والله» وانتظرني، لك ان تستقبل رنات عشرات المسجات وأجب عن ثمانية عشرة منها، أجب بلطفك المعهود على كل الاتصالات الواردة وتسلى بذبح الوقت حتى ألقي النظرة الاخيرة في الجريدة على مقالي «قلم احمر» انعس - براحتك - أمامي مراجعة بروفة الصفحات الفنية وأحمر قلمي... نم بالبيت، أنا جاية غطيك ونام مهدودة حدك من بعيد!


تكتبها : ليلى أحمد
[email protected]

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي