صبحي غندور / جمال عبدالناصر... وفلسطين

تصغير
تكبير
ليست الكتابة اليوم عن جمال عبدالناصر مجرد تكريم لذكرى ميلاده في 15/1/1918، بل هي أولاً وأخيراً استرجاع لدروس حقبة زمنية عاشت فيها مصر والأمة العربية معاني العزة والكرامة والإرادة الوطنية الحرة. حقبة نشتاق لها أكثر كلما ازداد بعدنا عنها زمنياً وسياسياً، كما هو حاصل الآن في الحرب الإسرائيلية على غزة.
«عاش من أجل فلسطين ومات من أجلها»، هذا هو الشعار الذي رفعه شعب فلسطين عقب وفاة ناصر عام 1970. ففي 28 سبتمبر 1970، مات جمال عبدالناصر بعد أيامٍ طويلة من الإرهاق والسهر المتواصل لوقف سيلان الدم العربي في شوارع الأردن آنذاك بين الجيش الأردني والمنظمات الفلسطينية، ومن خلال جهد قام به ناصر لجمع القادة العرب في قمة طارئة بالقاهرة.
فعبدالناصر أدرك هدف حرب العام 1967 الذي أشار إليه وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك موشي ديان والرئيس الأميركي السابق جونسون، بضرورة تخلي مصر عن دورها العربي، وإعادة سيناء لها مقابل ذلك، فرفض ناصر استعادة الأرض عن طريق عزلة مصر وتعطيل دورها العربي التاريخي. وجاء أنور السادات بعده ليحقق المطامح الدولية والإسرائيلية في مقايضة الأرض بالعزلة عن طريق معاهدة «كامب ديفيد».

عبدالناصر أدرك مخاطر الصراعات العربية - العربية التي كانت سائدة قبل حرب العام 1967، فأوقف تدخل الجيش المصري في اليمن وأقام «تحالف المدفع والنفط» الذي تأكدت أهميته في حرب عام 1973.
واليوم نجد أن تعطيل دور «المدفع» العربي في المعركة مع العدو الإسرائيلي، لم يحقق الأمن والسلام للعرب، بل برر للقوى الدولية الكبرى العودة إلى السيطرة على المنطقة من الباب الأمني الواسع والذي مازال مشرعاً على مصراعيه.
عبدالناصر أدرك بعد حرب عام 1967 أهمية وجود كيان فلسطيني مقاتل، فدعم انطلاقة الثورة الفلسطينية وقيادتها لمنظمة التحرير الفلسطينية، رافضاً إقامة «فصيل فلسطيني» خاص تابع له (كما فعلت حكومات عربية أخرى) انطلاقاً من حرصه على وحدة الشعب الفلسطيني وعلى توحيد جهود هذا الشعب من أجل استعادة وطنه، واليوم نجد قيادة هذه المنظمة تسلم خطوة بعد خطوة بالمطالب الأميركية والإسرائيلية.
عبدالناصر أكد بعد حرب العام 1967 حرصه على تعميق الوحدة الوطنية في كل بلدٍ عربي، وعلى رفض الصراعات الجانبية المحلية التي تخدم العدو الإسرائيلي (كما فعل في تدخله لوقف الصراع الداخلي في لبنان عام 1968 بعد صدامات الجيش اللبناني مع المنظمات الفلسطينية)، فإذا بالأرض العربية بعد غيابه تتشقق لتخرج من بين أوحالها مظاهر التفتت الداخلي والصراعات المحلية بأسماء مختلفة لتبدأ ظاهرة التآكل العربي الداخلي كبدايةٍ لأزمة لهدف السيطرة الخارجية والصهيونية.
لقد رفض جمال عبدالناصر إغراءات التسوية كلها مع إسرائيل، بما في ذلك العرض الأميركي - الإسرائيلي له بالانسحاب الكامل من كل سيناء، مقابل عدم تدخل مصر في الجبهات العربية الأخرى، وإنهاء الصراع بينها وبين إسرائيل. وكان ناصر يردد «القدس قبل سيناء، والجولان قبل سيناء»، و«لا صلح ولا اعتراف بإسرائيل ما لم تتحرر الأراضي العربية المحتلة كلها عام 1967، وما لم يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة».
وأصر ناصر على هذه الأهداف السياسية رغم قبوله بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن، ثم لما كان يُعرَف باسم «مبادرة روجرز»، وكان يتحرك دولياً في مختلف الاتجاهات (رغم ظروف الحرب الباردة واضطراره إلى علاقة خاصة مع موسكو) بلا تفريطٍ أو تنازلٍ عن الأهداف السياسية المرحلية، وبشكلٍ متزامنٍ مع البناء العسكري والمعارك المفتوحة على الجبهة المصرية، ومع أقصى درجات التضامن العربي والدعم المفتوح لحركة المقاومة الفلسطينية. هكذا جعل عبدالناصر من هزيمة العام 1967 أرضاً صلبة لبناء وضعٍ عربي أفضل عموماً مهد الطريق أمام حرب عام 1973.
هذه الحقبة الزمنية (من حرب العام 1967 إلى وفاة ناصر العام 1970) كانت مهمة جداً في التاريخ العربي المعاصر وفي تاريخ العلاقات العربية - العربية، وفي تاريخ الصراع العربي - الصهيوني. وللأسف لم يتوقف الكثيرون عند هذه الحقبة وما حملته من أساسات لم يحافَظ عليها لا في داخل مصر ولا في المنطقة العربية عموماً.
كذلك، كان انتصار المقاومة اللبنانية بإجبارها إسرائيل على الانسحاب من لبنان مساوياً، في قيمته وأهميته، لما قام به جمال عبدالناصر بعد هزيمة العام 1967 من ناحية إعادة الاعتبار للأمة ولِحق المقاومة المشروعة ضد الاحتلال، وفي تصحيح مسار الواقع العربي لجهة كيفية التعامل مع إسرائيل، إذ تأكد أن «الأرض هي مقابل المقاومة» وليست «الأرض مقابل شعارات السلام»، وأن الصلح والاعتراف والتعامل مع إسرائيل ليس هو مداخل استرجاع الحقوق والأرض من عدو لا يعرف سوى لغة القوة، بل المقاومة الرافضة للتفريط والتنازلات المبدئية، والمخلصة لأهدافها السياسية المعلنة، والحريصة على التفاف الشعب كله حولها. هذه المقاومة هي الكفيلة باسترجاع الأرض والحقوق معاً.
ولذا كان الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في العام 2000، ثم من غزة في العام 2005، انتصاراً لمقولة ناصر: «ما أُخِذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة»، رغم الظروف السلبية كلها السائدة لبنانياً وفلسطينياً وعربياً ودولياً.
لكن المشكلة الراهنة أن قيادة السلطة الفلسطينية مازالت تراهن على أسلوب المفاوضات فقط، وعلى التخلي الكامل عن أسلوب المقاومة، وبما يتوافق مع مطالب «الشريك» (الأميركي والإسرائيلي) باعتماد مقولة «المفاوضات كأسلوبٍ وحيد»، ومما يعني على مستوى المنطقة التطبيع مع إسرائيل، حتى قبل الانسحابات من الأراضي المحتلة، ويعني تخلياً عن الهوية العربية للمصالح «الشرق أوسطية»، ويعني صراعاتٍ بين الدول العربية يلازمها تطبيع وعلاقات مع إسرائيل، ويعني أيضاً هيمنة أميركية كاملة على المنطقة كطرفٍ دولي وحيد يشرف على هذه المفاوضات والمعاهدات ويضمن تنفيذها.
لقد أدرك الشعب الفلسطيني طوال قرنٍ تقريباً من زمن الصراع العربي - الصهيوني أن كفاحه المباشر هو الطريق للدفاع عن حقوقه ولتحصيل المغتصَب منها. وقد قدم هذا الشعب تضحياتٍ كبيرة في حقباتٍ زمنية مختلفة، ولم يتوقف عطاؤه في أي مرحلةٍ من مراحل الصراع مع العدو الصهيوني. ولعل الحرب الإسرائيلية الآن على غزة خير نموذج لعظمة التضحيات الفلسطينية في هذا الصراع المفتوح. فبارك الله بكم يا أبناء غزة المقاومين على أرضها ضد العدوان الإسرائيلي الغاشم. فالأرض المحتلة - أي أرضٍ محتلة - لا ترويها إلا الدماء... وفلسطين نبع لا ينضب من دماء أبنائها.
صبحي غندور
مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن
[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي