فهد توفيق الهندال / فاصلة / المعرفة جرحاً... والتجنب حرجاً!

تصغير
تكبير
في كتابه المترجم أخيراً تحت عنوان «التمنع، التجنب، التعرف، تأملات حول البداية» طرح الراحل إدوارد سعيد أسئلة عدة عن ظروف المجتمع العربي الحالية. ولعل السؤال الأبرز كان عن الشتات العربي: «لماذا نحن على هذه الحال؟».
يرى سعيد أن الإجابة قد تكمن في أننا إزاء مفارقة كبيرة، نتحدى بموجبها العروبة من مصالح محلية ضيقة من دون أن نعطي لحياتنا كجماعة أو كأفراد دلالة كبيرة. ليلحق سؤاله السابق، بأسئلة أخرى عدة، قد تشكل في كنهها أجوبة لواقع حالنا المجتمعي العربي.
الطرح الذي استمر عليه سعيد في كتابه يُعد في تصوري مشروعاً جيداً لمناقشة الواقع العربي على مختلف الأصعدة السياسية، الاقتصادية، التنموية، الاجتماعية، الإعلامية والثقافية. وإذا ما وضعنا في خلدنا ذلك السؤال الأزلي المر: لماذا تخلف العرب عن غيرهم، وما الذي يؤهل غيرهم للتقدم والتطور عليهم؟

الإجابة بطبيعة الحال تحتاج إلى محاضرات وندوات وكراسات وملفات و... من البهرجات البحثية التي تزيد الوقت جرحاً والعقل حرجاً. لسبب وحيد، وهو أن العرب ليسوا مستعدين لأن ينتهجوا النقد الذاتي كمحاولة للخروج من المأزق، ولا نعني بالنقد الذاتي الجلد ونصب المشانق أو المشاجب التي غالباً ما نحمّل الآخر مسؤوليتها. وإنما أن ننصت قليلاً، ونحسن الاستماع ونحن على الأرض، وليس معلقين ببالون الكبرياء الثقافي في أعلى قمم الفراغ!
ومن أهم هذه المشكلات القصور الكبير في بعض المفاهيم المستوردة من الغرب من دون التمعن في ظروف ميلادها ومراحلها ونتائجها من المهد إلى اللحد!
لهذا، يرى سعيد أننا كمجتمع عربي ارتكبنا خطيئة في تجنبنا لأزمة الهوية، التي يراها اللحظة الحاسمة إذ يخلف الإنسان ماضيه وراءه واعياً متألماً، كيما يتمسك بالمستقبل. ليطرح علامات استفهام وتعجب: «لماذا تركنا أنفسنا نطفو بشكل واضح كما تطفو قشور البرتقال على سطح البحر؟ لماذا لم نقل من نحن لأنفسنا وللآخرين على الصعيدين الجمعي والفردي؟»
وللأسف تستمر طاحونة اقتباس الأفكار الكبرى من الأمم الأخرى من دون أن نقيم جسراً واقعياً مع تراثنا الفكري، بحجة أن الأصولية تغلغلت فيه إلى حد التسرطن. ولكن عندما ينهض مفكر عربي مفترض، لابد عليه أن يعيد ذلك الاعتبار إلى العقل العربي في أن يؤسس لنمطية جديدة من التفكير لا التخدير الذي انتهجه الكثير من الكتاب العربي بعد نكسة العام 1967 - كما يذكر سعيد - في اعتمادهم بصورة لا واعية على أساليب التفكير والقيم المستندة بكاملها من الثقافة الإمبريالية، بما يبرر عجزها عن دفع حالة الجهل وغياب الوعي، وضرب مثالاً على ذلك كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر»، وهو ما يعبر عن حالة حديثة يروج لها بعض المثقفين العرب اليوم، استعارت مفاهيم مرحلة الأنوار الأوربية أو «التنوير»، كما يفضل البعض تسميتها، وهي ترجمة مختلف في شأنها لوصف تلك المرحلة لكون «التنوير» مشروع يفترض حدوثه فعلاً واستمراره، فكيف يمكن أن نؤسس إلى فكر جديد بانطلاقة خاطئة أو مختلف في شأنها اصطلاحاً ومفهوماً؟
لنتساءل مع سعيد: هل يعقل أن نعتمد على مثل هذه النوعية من الكتب والأفكار من مرحلة شهدت اضطراباً عقلياً ونزوعاً عاطفياً كبيراً في أن تضع خيوطاً أولى لمستقبل بعيد؟
يرى سعيد أن ما نراه اليوم في بعض الجامعات ومؤسسات التعليم العالي التي تحاكي نماذج القرن التاسع عشر في أوروبا وأميركا ما هي سوى تقليد مضحك لها، ليكون للدرس الببغاوي فيها ازدهاره الواسع، مما زاد من ندرة البحث المستقل، بسبب القوالب المحشوة بأفكار تحررت منها أوروبا منذ مئتي عام، ولا تزال. وغرس مصطلحات مستعارة ومشوهة في ترجمتها في العالم العربي أوقع الخراب كثيراً. فلا سبيل إذاً إلا بالعودة إلى تراثنا الفكري، إلا أننا نؤكد أن العودة إليه محفوفة أيضاً بالمخاطر ما لم نملك عدتها اللازمة ونقطة الانطلاق المناسبة منها، وهو ما يشدد عليه سعيد، بأن البداية هي اللحظة التي يستطيع فيها العقل أن يبدأ بالإشارة إلى نفسه - أي لا غيره - وإلى ما يصدر عنه لا عن غيره أيضاً! والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.
فهد توفيق الهندال
كاتب وإعلامي كويتي
[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي