حرب كما تتطلب


في أول مارس 1978، بعد ثلاثة أيام من العملية القاتلة في شارع الشاطئ، قررت إسرائيل أنه يكفي. فبعد تليين الميدان من الجو، والبحر وبإطلاق المدافع دخلت قوة جنوب لبنان من محاور أربعة في عملية كان اسمها العسكري «أبو الحكمة». في المرحلة الأولى سيطرت القوة على شريط من نحو عشرة كيلومترات، وفي غضون أيام ستة بلغت الليطاني في جميع المناطق تقريباً. في هذه المرحلة كان اسم العملية عند الجمهور أيضاً «عملية الليطاني». وخوفاً من خسائر القوات ومن المواطنين امتنع الجيش الإسرائيلي من دخول مدينة صور. اعتقد رفائيل إيتان، رئيس قسم العمليات، حينها، أن هذا الحديث عن جبن. في أماكن قليلة فقط كانت معارك حقيقة مع مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية، الذين هربوا على نحو عام أو اختلطوا بالسكان المحليين، الذين كانوا جزءاً من القتال أيضاً: فقد هرب نحو من مئتي ألف من السكان من نار الجيش الإسرائيلي إلى ما وراء الليطاني.
بعد نحو من ثلاثة أشهر عاد اخر الجنود إلى ما وراء الحدود الدولية. قتلت القوات أكثر من مئتي مخرب، وسقط من الجيش الإسرائيلي ثمانية عشر قتيلاً وأسير واحد أُعيد بعد نحو عام بصفقة تبادل أسرى. في إسرائيل تحدثوا عن إعادة الردع لمنظمة التحرير الفلسطينية وعن أمن جديد لسكان شمالي الدولة، ونظام جديد في جنوبي لبنان. بعد عامين من ذلك عادت صواريخ الكاتيوشا بكامل قوتها. في العام 1982 قاد رفائيل إيتان، وكان في هذه المرة رئيس هيئة الأركان، الجيش الإسرائيلي إلى حرب لبنان الأولى.
ليس ما يتغير على الأعوام هو القتال، بل الذاكرة الإسرائيلية، والصدمة الفظيعة التي نريد محوها، والمخاوف التي نريد تسكينها: فقد خفنا مرة ألا نكون أذكياء بقدر كافٍ في استعمال القوة التي نملكها، واليوم تختار أسماء العمليات («السور الواقي»، و«الرصاص المصهور») لا باستعمال الحاسوب، بل يختارها ضباط في قصد إلى بيان أننا لا نزال شجعاناً وأقوياء، رغم ما نعتقده في أنفسنا.
بعد ثلاثين عاماً من عملية الليطاني ليس المقياس الذي يقاس به الفعل والنتيجة، والقدرة والتنفيذ، هو حرب يوم الغفران، التي فشلت فيها الاستخبارات والقادة، وأظهرت فيها القوات المقاتلة قدرة وتصميماً، بل حرب لبنان الثانية. منذ أكثر من ثلاثة عقود تحارب إسرائيل ذكرياتها، ومخاوفها ورؤيتها الواقع أكثر مما تحارب أعداءها الذين أخذوا يضعفون.
* * *
في الجيش الذي يداوم على القتال، تعبر طرائق العمل عما يعد ناجحاً أو فاشلاً في المرحلة السابقة. إن خطط «الرصاص المصهور» تعبر عن رد الجيش على حرب لبنان الثانية، كما نبعت إخفاقات تلك الحرب حقاً من استنساخ العقلية، وطرائق العمليات والتصور العام للقتال في المناطق إلى جبهة أخرى وبإزاء عدو مختلف في جنوب لبنان.
في لبنان تم التعبير عن عقلية المناطق الذي تقول إن التمسك بالمهمة لا يعني بالضرورة أن كل شيء يجب أن ينفذ الآن وأنه يوجد غد دائماً. في أثناء الانتفاضة الثانية افتخر قادة الألوية بأن كتائبهم تعلمت أن تعمل مثل دوريات في جماعات صغيرة وبتعاون مع المساعدة الجوية، واستعمال واسع لاستخبارات ممتازة ومرونة كبيرة. في لبنان ترجمت هذه العقلية إلى تعلق تام بالنقل الجوي لنقل القوات والإمدادات، ونقص معلومات وتدريب على استعمال أطر أكبر من سرية، مع تأكيد مفرط للوعي وعمليات الوعي وإيمان أعمى بأن العمليات الخاصة ستحسم الأمر. تم تنفيذ عشرات من عمليات كهذه في أثناء الحرب. قبل عملية بعلبك (في حرب العام 2006) قال وزير الدفاع عمير بيرتس «هذه عملية ستغير وجه التاريخ». استقبلت العملية بالهتاف كما فعل الإعلام مع عين طيبة، لكنها أثمرت قليلاً.
كان قائد المنطقة الجنوبية يوآف غلنت وقائد فرقة غزة السابق تشيكو تامير من البارزين بين الضباط الذين زعموا بعد الحرب أننا ببساطة وجدنا مع القيادة غير الصحيحة في الوقت غير الصحيح. كان اسم «المنتخب الثاني» هو الاسم غير المهذب الذي استعمله ضابط رفيع المستوى بعد الحرب. العملية التي أعدوها، بإشراف رئيس هيئة الأركان غابي أشكنازي، الذي لن يعلن هذا لكن لا شك في أنه يعتقد انه لو كان في عمله في يوليو 2006 لكان كل شيء مختلفاً، كانت رداً على إخفاقات لبنان: فهي ثقيلة، وعنيفة ولا تعتمد على الكثير سوى القوة ثم القوة.
فوق كل شيء بطبيعة الأمر، إن غزة ميدان يختلف تماماً والعدو مختلف. فالمنتحرون، والحفر الملغمة والمنازل الملغمة أخطار يجب معرفة مواجهتها، لكن في أسبوعين من النشاط البري لم يلاقِ الجيش الإسرائيلي أي قوة منظمة في مستوى أكثر من رجلين أو ثلاثة، بلا إطلاق لصواريخ مضادة للدبابات من بعيد أو سلاح دقيق، ولم يلق أي شيء هدد ولو قليلاً السيطرة الجوية التامة. «حددتم معياراً عالمياً جديداً للتنسيق بين قوات الجو والبر»، قال إيهود باراك الأسبوع الماضي لطياري المروحيات الذين زارهم. قد يكون ذلك، لكن من جهة عسكرية خالصة حدد هذا المعيار بالنسبة إلى نصف ملعب فارغ.
* * *
فوق كل شيء غاب عن مسار «الرصاص المصهور» الكلمة التي قادت جزءاً كبيراً من تفكير الجيش الإسرائيلي في الأعوام الأخيرة، وهي الشرعية. ففي عملية «أيام التوبة» في أكتوبر 2004 أمر قائد فرقة غزة العميد شموئيل زكاي «بوقف القتال من أجل الشرعية»، بعد أن بلغت الحكومة ردود على مشاهد البيوت المدمرة. في الأسابيع الأخيرة يعمل قادة الجيش الإسرائيلي بتوجيه أنهم يملكون ما في العالم كله من شرعية.
إن من يتابع الشبكات الأجنبية فقط أو يسافر إلى الخارج لبضعة أيام يستوعب قوة الصور من غزة، ومعنى التقارير عن نصف مليون إنسان بلا ماء، وأكثر من الف قتيل لم يدفن أكثرهم (ومقبرة قصفها سلاح الجو) وجهاز طبي منهار. سيدفع الإسرائيليون ثمن هذا الإضرار بصورتهم زمناً طويلاً. لكن في إسرائيل إيهود باراك وفي الجيش الإسرائيلي بعد لبنان لم يعد هذا تقديراً.
ولدت «أيام التوبة» من جملة ما ولدت رسالة شديدة من محاربين في وحدة مختارة، امتعضوا لجزء من المهمات التي فرضت عليهم وللمشاهد التي رأوها. سنرى بعد ما الذي سيحدث عندما يزول دخان «الرصاص المصهور». يبدو في هذه الأثناء أن الشرعية الداخلية مطلقة: العلة العادلة بلا شك التي هي إطلاق مستمر لصواريخ على بلدات مدنية، مع الرغبة في محو المخاوف التي أثارتها حرب لبنان والتغيير المتصل للجو عند الجمهور وفي الإعلان يوحي إلى القادة بإحساس أنه لا ثمن لاستعمال القوة. من الأمور الساخرة أن باراك وأشكنازي واعيان جداً لحدود القوة، وسيذكران كمن قادا إحدى أكثر العمليات عنفاً في تاريخ الجيش الإسرائيلي إزاء عدو وسكان مدنيين يعمل الجيش الإسرائيلي داخلهم.
وإليكم ما فعل الجيش الإسرائيلي في الأسابيع الثلاثة الأخيرة: الكثير جداً من القوة في منطقة صغيرة. في الحقيقة أن القصف الجوي اعتمد على معلومات استخبارية دقيقة جداً، لكن جزءاً كبيراً من السلاح ولا سيما الطيارات الحربية أحدث ضرراً بيئياً عظيماً، حتى لو كانت الإصابة دقيقة. افتخر تحقيق عمليات السلاح بأن دقة إصابة القنابل الموجهة بنظام الـ «جي بي إس» كانت أقل بثلاثة أمتار عن الهدف، لكنك عندما تلقي قنبلة زينتها طن في وسط منطقة مكتظة لا نظير لها، فماذا يهم ذلك؟ كانت مبادئ العملية البرية البطء، والحذر، وفي كل حالة شك يطلقون النار.
بخلاف تصور الجيش الإسرائيلي التقليدي عن أنه ينبغي تقصير وقت العملية قدر المستطاع، وحسب التصور القائل بوجود شرعية تامة للعملية داخل إسرائيل، طلب أشكنازي إطالة المرحلة البرية الأولى من العملية قدر المستطاع، وأن يحصل بذلك على وقت أكبر كي لا تنفذ المرحلة التالية التي لم يرغب فيها. «ليس عندنا شارع بيروت - دمشق للوصول إليه، ولا ساعة توقيت ولا جدول زمني»، قال ضابط رفيع المستوى الأسبوع الماضي. وعندما لا يكون للجيش هدف بري أو جدول زمني فإنه يتحرك ببطء ويبصق أكبر قدر من النار.
ليس الجيش الإسرائيلي مسؤولاً عن عرض هذه العملية المستعملة للقوة كخلاص من صدمة لبنان، لكنه شجع هذا الشعور قدر المستطاع: فالحكايات عن زيارات القادة للميدان؛ والأنباء عن وفرة الذخيرة والطعام الذي يصل الجنود، وكأن ظروف الأرض والعدو ومحاور الإمداد في غزة تشبه تلك التي كانت في لبنان. ابتلع الجمهور والإعلام ذلك بابتهاج. والأسئلة الحقيقية المتصلة بدروس لبنان، ولا سيما ما يمكن ويراد إحرازه إزاء منظمة كـ«حماس»، والقرارات السابقة وتلك التي تم اتخاذها أثناء العملية في المستوى السياسي، ذلك كله جعل في ناحية إزاء الابتهاج بالجيش الذي أُعيد بناؤه وبالردع الذي عاد. هكذا تكون الحال في دولة تعيش على مخاوفها. وهذا ما سيكون في العملية المقبلة أيضاً، التي لن نضطر كما يقول التاريخ إلى انتظار وصولها كثيراً.
عوفر شيلح
«معاريف»
بعد نحو من ثلاثة أشهر عاد اخر الجنود إلى ما وراء الحدود الدولية. قتلت القوات أكثر من مئتي مخرب، وسقط من الجيش الإسرائيلي ثمانية عشر قتيلاً وأسير واحد أُعيد بعد نحو عام بصفقة تبادل أسرى. في إسرائيل تحدثوا عن إعادة الردع لمنظمة التحرير الفلسطينية وعن أمن جديد لسكان شمالي الدولة، ونظام جديد في جنوبي لبنان. بعد عامين من ذلك عادت صواريخ الكاتيوشا بكامل قوتها. في العام 1982 قاد رفائيل إيتان، وكان في هذه المرة رئيس هيئة الأركان، الجيش الإسرائيلي إلى حرب لبنان الأولى.
ليس ما يتغير على الأعوام هو القتال، بل الذاكرة الإسرائيلية، والصدمة الفظيعة التي نريد محوها، والمخاوف التي نريد تسكينها: فقد خفنا مرة ألا نكون أذكياء بقدر كافٍ في استعمال القوة التي نملكها، واليوم تختار أسماء العمليات («السور الواقي»، و«الرصاص المصهور») لا باستعمال الحاسوب، بل يختارها ضباط في قصد إلى بيان أننا لا نزال شجعاناً وأقوياء، رغم ما نعتقده في أنفسنا.
بعد ثلاثين عاماً من عملية الليطاني ليس المقياس الذي يقاس به الفعل والنتيجة، والقدرة والتنفيذ، هو حرب يوم الغفران، التي فشلت فيها الاستخبارات والقادة، وأظهرت فيها القوات المقاتلة قدرة وتصميماً، بل حرب لبنان الثانية. منذ أكثر من ثلاثة عقود تحارب إسرائيل ذكرياتها، ومخاوفها ورؤيتها الواقع أكثر مما تحارب أعداءها الذين أخذوا يضعفون.
* * *
في الجيش الذي يداوم على القتال، تعبر طرائق العمل عما يعد ناجحاً أو فاشلاً في المرحلة السابقة. إن خطط «الرصاص المصهور» تعبر عن رد الجيش على حرب لبنان الثانية، كما نبعت إخفاقات تلك الحرب حقاً من استنساخ العقلية، وطرائق العمليات والتصور العام للقتال في المناطق إلى جبهة أخرى وبإزاء عدو مختلف في جنوب لبنان.
في لبنان تم التعبير عن عقلية المناطق الذي تقول إن التمسك بالمهمة لا يعني بالضرورة أن كل شيء يجب أن ينفذ الآن وأنه يوجد غد دائماً. في أثناء الانتفاضة الثانية افتخر قادة الألوية بأن كتائبهم تعلمت أن تعمل مثل دوريات في جماعات صغيرة وبتعاون مع المساعدة الجوية، واستعمال واسع لاستخبارات ممتازة ومرونة كبيرة. في لبنان ترجمت هذه العقلية إلى تعلق تام بالنقل الجوي لنقل القوات والإمدادات، ونقص معلومات وتدريب على استعمال أطر أكبر من سرية، مع تأكيد مفرط للوعي وعمليات الوعي وإيمان أعمى بأن العمليات الخاصة ستحسم الأمر. تم تنفيذ عشرات من عمليات كهذه في أثناء الحرب. قبل عملية بعلبك (في حرب العام 2006) قال وزير الدفاع عمير بيرتس «هذه عملية ستغير وجه التاريخ». استقبلت العملية بالهتاف كما فعل الإعلام مع عين طيبة، لكنها أثمرت قليلاً.
كان قائد المنطقة الجنوبية يوآف غلنت وقائد فرقة غزة السابق تشيكو تامير من البارزين بين الضباط الذين زعموا بعد الحرب أننا ببساطة وجدنا مع القيادة غير الصحيحة في الوقت غير الصحيح. كان اسم «المنتخب الثاني» هو الاسم غير المهذب الذي استعمله ضابط رفيع المستوى بعد الحرب. العملية التي أعدوها، بإشراف رئيس هيئة الأركان غابي أشكنازي، الذي لن يعلن هذا لكن لا شك في أنه يعتقد انه لو كان في عمله في يوليو 2006 لكان كل شيء مختلفاً، كانت رداً على إخفاقات لبنان: فهي ثقيلة، وعنيفة ولا تعتمد على الكثير سوى القوة ثم القوة.
فوق كل شيء بطبيعة الأمر، إن غزة ميدان يختلف تماماً والعدو مختلف. فالمنتحرون، والحفر الملغمة والمنازل الملغمة أخطار يجب معرفة مواجهتها، لكن في أسبوعين من النشاط البري لم يلاقِ الجيش الإسرائيلي أي قوة منظمة في مستوى أكثر من رجلين أو ثلاثة، بلا إطلاق لصواريخ مضادة للدبابات من بعيد أو سلاح دقيق، ولم يلق أي شيء هدد ولو قليلاً السيطرة الجوية التامة. «حددتم معياراً عالمياً جديداً للتنسيق بين قوات الجو والبر»، قال إيهود باراك الأسبوع الماضي لطياري المروحيات الذين زارهم. قد يكون ذلك، لكن من جهة عسكرية خالصة حدد هذا المعيار بالنسبة إلى نصف ملعب فارغ.
* * *
فوق كل شيء غاب عن مسار «الرصاص المصهور» الكلمة التي قادت جزءاً كبيراً من تفكير الجيش الإسرائيلي في الأعوام الأخيرة، وهي الشرعية. ففي عملية «أيام التوبة» في أكتوبر 2004 أمر قائد فرقة غزة العميد شموئيل زكاي «بوقف القتال من أجل الشرعية»، بعد أن بلغت الحكومة ردود على مشاهد البيوت المدمرة. في الأسابيع الأخيرة يعمل قادة الجيش الإسرائيلي بتوجيه أنهم يملكون ما في العالم كله من شرعية.
إن من يتابع الشبكات الأجنبية فقط أو يسافر إلى الخارج لبضعة أيام يستوعب قوة الصور من غزة، ومعنى التقارير عن نصف مليون إنسان بلا ماء، وأكثر من الف قتيل لم يدفن أكثرهم (ومقبرة قصفها سلاح الجو) وجهاز طبي منهار. سيدفع الإسرائيليون ثمن هذا الإضرار بصورتهم زمناً طويلاً. لكن في إسرائيل إيهود باراك وفي الجيش الإسرائيلي بعد لبنان لم يعد هذا تقديراً.
ولدت «أيام التوبة» من جملة ما ولدت رسالة شديدة من محاربين في وحدة مختارة، امتعضوا لجزء من المهمات التي فرضت عليهم وللمشاهد التي رأوها. سنرى بعد ما الذي سيحدث عندما يزول دخان «الرصاص المصهور». يبدو في هذه الأثناء أن الشرعية الداخلية مطلقة: العلة العادلة بلا شك التي هي إطلاق مستمر لصواريخ على بلدات مدنية، مع الرغبة في محو المخاوف التي أثارتها حرب لبنان والتغيير المتصل للجو عند الجمهور وفي الإعلان يوحي إلى القادة بإحساس أنه لا ثمن لاستعمال القوة. من الأمور الساخرة أن باراك وأشكنازي واعيان جداً لحدود القوة، وسيذكران كمن قادا إحدى أكثر العمليات عنفاً في تاريخ الجيش الإسرائيلي إزاء عدو وسكان مدنيين يعمل الجيش الإسرائيلي داخلهم.
وإليكم ما فعل الجيش الإسرائيلي في الأسابيع الثلاثة الأخيرة: الكثير جداً من القوة في منطقة صغيرة. في الحقيقة أن القصف الجوي اعتمد على معلومات استخبارية دقيقة جداً، لكن جزءاً كبيراً من السلاح ولا سيما الطيارات الحربية أحدث ضرراً بيئياً عظيماً، حتى لو كانت الإصابة دقيقة. افتخر تحقيق عمليات السلاح بأن دقة إصابة القنابل الموجهة بنظام الـ «جي بي إس» كانت أقل بثلاثة أمتار عن الهدف، لكنك عندما تلقي قنبلة زينتها طن في وسط منطقة مكتظة لا نظير لها، فماذا يهم ذلك؟ كانت مبادئ العملية البرية البطء، والحذر، وفي كل حالة شك يطلقون النار.
بخلاف تصور الجيش الإسرائيلي التقليدي عن أنه ينبغي تقصير وقت العملية قدر المستطاع، وحسب التصور القائل بوجود شرعية تامة للعملية داخل إسرائيل، طلب أشكنازي إطالة المرحلة البرية الأولى من العملية قدر المستطاع، وأن يحصل بذلك على وقت أكبر كي لا تنفذ المرحلة التالية التي لم يرغب فيها. «ليس عندنا شارع بيروت - دمشق للوصول إليه، ولا ساعة توقيت ولا جدول زمني»، قال ضابط رفيع المستوى الأسبوع الماضي. وعندما لا يكون للجيش هدف بري أو جدول زمني فإنه يتحرك ببطء ويبصق أكبر قدر من النار.
ليس الجيش الإسرائيلي مسؤولاً عن عرض هذه العملية المستعملة للقوة كخلاص من صدمة لبنان، لكنه شجع هذا الشعور قدر المستطاع: فالحكايات عن زيارات القادة للميدان؛ والأنباء عن وفرة الذخيرة والطعام الذي يصل الجنود، وكأن ظروف الأرض والعدو ومحاور الإمداد في غزة تشبه تلك التي كانت في لبنان. ابتلع الجمهور والإعلام ذلك بابتهاج. والأسئلة الحقيقية المتصلة بدروس لبنان، ولا سيما ما يمكن ويراد إحرازه إزاء منظمة كـ«حماس»، والقرارات السابقة وتلك التي تم اتخاذها أثناء العملية في المستوى السياسي، ذلك كله جعل في ناحية إزاء الابتهاج بالجيش الذي أُعيد بناؤه وبالردع الذي عاد. هكذا تكون الحال في دولة تعيش على مخاوفها. وهذا ما سيكون في العملية المقبلة أيضاً، التي لن نضطر كما يقول التاريخ إلى انتظار وصولها كثيراً.
عوفر شيلح
«معاريف»