الزيادة المفرطة في الدعاوى تؤثر جلياً في أمرين هما جودة الأحكام وبطء العدالة

نحو سياسة جزائية معاصرة لإدارة الدعوى العمومية

تصغير
تكبير

1.2 مليون قضية نظرتها المحاكم الكويتية العام 2018... 600 ألف منها «أوامر جزائية»

ما يؤزم وضعنا القضائي تشبُّث نظامنا القانوني بعقائده التقليدية والتلازم بين الدعوى والعقوبة

مطلوب استحداث بدائل عن الدعوى العمومية يحقق المشرّع من خلالها الغايات التي يريدها

سياسة المشرّع الجزائية تبنت فكرة تحاشي إغراق القضاء بقضايا قليلة الأهمية وإنهاء المنازعات قبل وصولها للمحكمة

الثورة التشريعية تكمن في التحرر من أفكار الخصومة التقليدية والانتقال بالعدالة من القسرية إلى التفاوضية 

 

تشكل الزيادة المفرطة في الدعاوى الجزائية المنظورة أمام القضاء نتيجة منطقية لعاملين رئيسيين: ظاهرة التضخم التشريعي في القوانين الجزائية، وزيادة أعداد المتقاضين نتيجة للزيادة السكانية من جهة أخرى، وهو ما يستنزف جهاز العدالة القضائية حيث بلغ عدد القضايا المنظورة في المحاكم الكويتية لعام 2018 قرابة مليون و200 ألف قضية، منها 600 ألف قضية بصورة الأوامر الجزائية وهو ما يؤثر بشكلٍ جلي على جودة الأحكام القضائية الصادرة من المحاكم من جهة وعلى بطء العدالة الجزائية من جهة أخرى، وهو في مجمله يؤثر على سلامة النظام القضائي. تشكل الزيادة المفرطة في الدعاوى الجزائية المنظورة أمام القضاء نتيجة منطقية لعاملين رئيسيين: ظاهرة التضخم التشريعي في القوانين الجزائية، وزيادة أعداد المتقاضين نتيجة للزيادة السكانية من جهة أخرى، وهو ما يستنزف جهاز العدالة القضائية حيث بلغ عدد القضايا المنظورة في المحاكم الكويتية لعام 2018 قرابة مليون و200 ألف قضية، منها 600 ألف قضية بصورة الأوامر الجزائية وهو ما يؤثر بشكلٍ جلي على جودة الأحكام القضائية الصادرة من المحاكم من جهة وعلى بطء العدالة الجزائية من جهة أخرى، وهو في مجمله يؤثر على سلامة النظام القضائي. ولعل ما يؤزم وضعنا القضائي هو تشبث نظامنا القانوني بعقائده التقليدية في ما يخص حق الدولة في العقاب وأخصها مبدأ التلازم بين الدعوى والعقوبة انطلاقاً من مبدأ «لا عقوبة دون دعوى جزائية» حيث أثبتت التجارب التطبيقية، بالتعاضد مع الفقه المقارن، عدم فاعلية هذا المبدأ على إطلاقه بشقيه العقابي والإجرائي، فلم تعد العقوبات النمطية التقليدية (إعدام – حبس – غرامة) ذات فاعلية، كما أن فكرة اقتضاء الدولة حقها أو حق المجني عليه عبر آلية الدعوى العمومية كخيارٍ أحادي ليست هي الأخرى مجدية وهو ما يتطلب استحداث بدائل عن الدعوى العمومية يحقق من خلالها المشرع ذات الغايات التي يسعى لها من خلال الإجراءات التقليدية للدعوى العمومية. كما أن جائحة فيروس كورونا ألقت بظلالها على تكدس المساجين في المؤسسات العقابية، وما استتبعه من انتشار للفيروس كان أحد عوامله الرئيسية هو الزيادة العددية في أعداد المساجين نتيجة سياسة المشرع الكويتي العقابية المغالية في عقوبة الحبس. 
إدارة الدعوى العموميةيتنازع إدارة الدعوى العمومية بشكل عام مبدآن متضادان، الأول: مبدأ حتمية الملاحقة الجزائية، وبه تجبر جهة الادعاء على الملاحقة الجزائية ومباشرة الدعوى العمومية في كل جريمة تصل إليها، متى ما كان المتهم معرفاً، انطلاقاً من مبدأ مساواة الأفراد أمام العدالة الجزائية. ومبدأ الملاءمة والذي من خلاله يعهد المشرع إلى جهة الملاحقة والاتهام تقدير ملاءمات الملاحقة وفق معاير السياسة التشريعية التي يتبناها المشرع وأهمها جسامة السلوك في ظل تبنيه معالجات إجرائية ثانوية في حالات الجرائم البسيطة.ويتبنى المشرع الكويتي النظام المختلط حيث إن الأصل مبدأ حتمية الملاحقة الجزائية وفق نص المادة 102 من قانون الإجراءات الجزائية الكويتي وبه يلزم جهة الادعاء بالملاحقة الجزائية متى تحققت من وجود جريمة وأن الأدلة كافية ضد المتهم. ومع ذلك فقد طعم سياسته تلك بمبدأ الملاءمة والذي يتيح لوزير الداخلية – والنائب العام وفق التطبيق العملي – بحفظ القضايا لعدم الأهمية وهو ما يأخذ في الاعتبار عدم إغراق مرفق القضاء بجرائم قليلة الأهمية. وقد أخذت بالاعتبار سياسة المشرع الجزائية – جزئياً – تحاشي فكرة إغراق مرفق القضاء بقضايا قليلة الأهمية أو لاعتبارات متعلقة بالعلاقة الخاصة بين الجاني والمجني عليه وإنهاء تلك المنازعات الجزائية قبل وصولها للقضاء من خلال: 1- تبني نظام الشكوى من خلال نص المادة 109 من قانون الإجراءات الجزائية كجرائم السب والقذف وإفشاء الأسرار وخطف الإناث وبعض جرائم الأموال بين الأصول والفروع والأزواج. حيث إن عدم ورود الشكوى يحول دون اتصال المحكمة بالقضية.2- تبني نظام العفو والصلح وفق نص المادة 240 – 241 من قانون الإجراءات الجزائية والذي يجيز العفو والتصالح على مقابل مع المجني عليه قبل إحالة القضية إلى المحكمة ومؤداه حفظ القضية لورود العفو أو الصلح كما هو معمول واقعا، إلا أنه يؤخذ على نصوص القانون أنها حصرت ذلك الأثر في جرائم الشكوى دون بقية الجرائم التي يجوز فيها الصلح أو العفو.3- تبني نظام التصالح مع الدولة كما هو معمول في المادة 41 من قانون المرور الكويتي والمادة 144 من قانون حماية البيئة الكويتي والمادة 5 من قانون حظر بعض الأفعال الضارة بالنظافة العامة والمزروعات. 4- تبني مبدأ ملاءمة الملاحقة الجزائية وفق نص المادة 104 والذي يجيز – حتى مع تمام قيام الجريمة ومعرفة مرتكبها – حفظ التحقيق نهائياً في حالة تفاهة الجريمة أو ظروف ارتكابها. إلا أن تلك السياسة التي اتخذها المشرع الكويتي لم تكن على قدر الطموح فالقضايا هي ذاتها والتكدس والازدحام القضائي في اضطراد وهو ما يستدعي الانفتاح على معالجات تشريعية أكثر حداثة من جهة وتأخذ في الاعتبارات القيود الدستورية من جهة أخرى وأخصها مبدأ المحاكمة العادلة.
نحو معالجة أكثر حداثة:إن إدارة الدعوى العمومية وفق قانون الإجراءات الكويتي لا تخرج عن إحدى حالتين: إما الملاحقة الجزائية و إما الحفظ وهو ما يشكل وجه المعالجة الحدية في نظامنا الإجرائي. إلا أن الثورة التشريعية تكمن في إيجاد بدائل للدعوى العمومية هو ما يتطلب أولا التحرر من قيود وأفكار الخصومة التقليدية والإقرار بضرورة الانتقال – في مجال الجرائم ذات الجسامة البسيطة إلى المتوسطة – من العدالة القسرية إلى العدالة التفاوضية مع الجاني والعمل على إنهاء الخصومة الجزائية بعيداً عن أروقة القضاء وإنهائها لدى جهة الادعاء، كما هو الحال في «البدائل الإصلاحية»، أو وفق نظام «العقوبة التفاوضية» والذي ينتقل معه القاضي الجزائي من حاكم للدعوى العمومية إلى مراقب لها إجرائيا وموضوعيا. أولا: نظام البدائل الإصلاحية: ويقصد بها مجموعة من الإجراءات التي يقرها المشرع وتطبقها جهة الادعاء على الجاني مستهدفةً إصلاح الأضرار التي لحقت بالمجني عليه أو على النظام العام أو لإصلاح الجاني وحسن إعادة دمجه في المجتمع. ومن أجل إنجاح أنظمة البدائل الإصلاحية عمدت بعض الأنظمة المقارنة كالقانون الفرنسي إلى عدم اعتبارها عقوبة وبالتالي لا تسجل في الصحيفة الجنائية للمتهم ولا تشكل سابقة جزائية. كما أن أنظمة البدائل الإصلاحية لا تتطلب بالضرورة الحصول على رضاء المتهم ولا يجبر عليها إلا أن عدم امتثاله لتلك البدائل من شأنه إعادة فتح القضية ومباشرة الدعوى العمومية في مواجهته الأمر الذي يستشف منه أن مجرد امتثال المتهم لتلك البدائل الإصلاحية إقراراً ضمنيا بالإذناب. ولأنها ليست عقوبة ولا يجبر المتهم على الامتثال لها لا يتطلب بالضرورة حضور محامٍ عنه إنما يترك الأمر لاختياره. وتهدف أنظمة البدائل الإصلاحية إلى إنهاء الخصومة الجزائية دون نقلها إلى القاضي الجزائي وهو ما يستدعى حتمية انقضاء الدعوى الجزائية، لذلك يجب أن يترك الحق للمجني عليه – في الجرائم ضد الأفراد - من التظلم من قرار جهة التحقيق والاتهام في الالتجاء إلى مثل تلك البدائل بديلا عن الدعوى العمومية.كما أن أنظمة البدائل الإصلاحية تعيد تشكيل أدوار أطراف الخصومة الجزائية بما يسمح أن يلعب المحقق في هذه الإجراءات دوراً قريباً من دور القاضي وهو ما دعا جانبا من الفقه الفرنسي لوصف وكلاء النائب العام في شأن تلك البدائل «بأنصاف القضاة». وتتمثل البدائل الإصلاحية للدعوى العمومية في اللوم والتنبيه والتذكير بالقانون أولا: وهو إجراء يتخذ في الجرائم ذات الجسامة المتدنية لتذكير المتهم من خلالها بالقواعد والالتزامات القانونية التي خرقها وتنبيهه بأن في حالة إعادة ارتكاب ذات السلوك ستتم مباشرة الدعوى الجزائية. وثانيا، الخضوع والالتزام بالدورات التدريبية والتأهيلية أو النفسية أو الصحية والتي تسمح له بتجاوز حالة الانحراف السلوكي الذي وقع به. وثالثا، إصلاح الأضرار المادية الناتجة عن الجريمة سواء كان المجني عليه فردا أم الدولة. وإصلاح الأضرار مفهوم يختلف عن الصلح، حيث لا تتطلب موافقة المجني عليه إنما تخضع كفايته لتقدير جهة الملاحقة الجزائية ويحتفظ المجني عليه بحق التظلم من تلك القرارات. يلجأ عادة لهذا الإجراء في جرائم الاعتداء على الممتلكات وجرائم الإتلاف.والبديل الرابع يتمثل في نظام الوساطة: وبه تقوم جهة الملاحقة الجزائية بدور المبادر في الوساطة بين أطراف النزاع الجزائي (الجاني والمجني عليه) على أن يشمل الاتفاق بينهما التصالح على كافة الجوانب المادية والمعنوية وهو ما يختلف عن الإجراء السابق. ويلجأ إلى هذا النظام في الأنزعة التي تربط أطرافها علاقات ذات طبيعة خاصة سواء عائلية أم مهنية أم وظيفية أم سكنية. أما الخامس فيتمثل في حظر الاقتراب أو حظر التواصل: وهو نظام يحرم المتهم من الاقتراب من المجني عليه أو يحظر بموجبه على المتهم التواصل مع أشخاص محددين سواء المجني عليه أم غيره وذلك بغية تجاوز مرحلة الانحراف السلوكي أو الخطورة الإجرامية.ثانيا: نظام العقوبة التفاوضية: وهو نظام أكثر صرامة حيث إنه يتوسط بين نظام البدائل الإصلاحية والمحاكمة التقليدية. يعتمد نظام العقوبة التفاوضية أولا على الإقرار بالذنب من قبل المتهم وهو ما يمثل جوهر الحقيقة القضائية في هذا الإجراء وبه يتم التفاوض مع المتهم على عقوبات يحددها المشرع على ألا تكون من ضمنها عقوبات الحبس وذلك للعمل على إنجاح هذا النظام من جهة ولتحفيز المتهم الثابتة بحقه الجريمة على القبول بهذا النظام. كما أن هذا النظام -على عكس من البدائل الإصلاحية- يتطلب موافقة المتهم عليه وذلك لأنه يسجل كسابقة في الصحيفة الجنائية وهو ما يتطلب توافر ضمانات المحاكمة العادلة باعتباره مبدأ دستورياً وفق نص المادة 34 من الدستور، ولذلك يتطلب أولا: الحق في حضور محام مع المتهم في كافة مراحل التحقيق والمفاوضة على العقوبة، وثانيا: عرض الأمر على القاضي باعتباره مراقبا للخصومة الجزائية وليس حاكما لها وعليه التحقق من سلامة كافة الجوانب الإجرائية والموضوعية محل التهمة وله الحق في الموافقة على الاتفاق أو رفضه سواء كان الرفض لصالح المتهم أو ضده وله كذلك رد الإجراء ومباشرة الدعوى العمومية إن كان لها مقتضى.ويمكن تطبيق نظام العقوبة التفاوضية على الجرائم ذات الجسامة المتوسطة كما في جرائم النصب والشيك من غير رصيد وجرائم السرقات الموصوفة وبعض جرائم المخدرات كالتعاطي في حالة العود أو جرائم العنف الأسري أو بعض جرائم إتلاف الممتلكات العامة وغيرها من الجرائم المتوسطة.  وترتب العقوبة التفاوضية أثرا مهما وهو عدم جواز مباشرة الدعوى العمومية، على ألا يخل ذلك بحق المجني عليه في رفع مطالبته المدنية أمام القضاء المختص. وباعتبارها عقوبة «تفاوضية» فإن إنجاح هذا النظام يتطلب من جهات الملاحقة الجزائية العمل على إنجاحه عبر التحرر من النظرة القسرية تجاه المتهم فجميع الأطراف عليها القبول بتقديم التنازلات لا التعنت والتزمت.
* عضو هيئة التدريس في كلية الحقوق بجامعة الكويت

 بدائل إصلاحية للدعوى العمومية

1 - اللوم والتنبيه والتذكير بالقانون: وهو إجراء يتخذ في الجرائم ذات الجسامة المتدنية.
2 - الخضوع والالتزام بالدورات التدريبية والتأهيلية أو النفسية أو الصحية لتجاوز المدعى عليه حالة الانحراف السلوكي.
3 - إصلاح الأضرار المادية الناتجة عن الجريمة سواء كان المجني عليه فردا أم الدولة
4 - نظام الوساطة: تقوم جهة الملاحقة الجزائية بدور المبادر في الوساطة بين أطراف النزاع الجزائي.
5 - حظر الاقتراب أو حظر التواصل: نظام يحظر المتهم من الاقتراب من المجني عليه أو التواصل مع أشخاص محدّدين.

تصوّرات مقترحة للعقوبات التفاوضية

1 - الغرامة: على ألا تتجاوز الحد الأدنى المنصوص عليه في القانون.
2 - المصادرة: إلزام المتهم بتسليم الأشياء التي استعملت في الجريمة.
3 - الحجز الموقت للأشياء والرخص: كالسيارة أو رخص القيادة أو حيازة السلاح أو الرخص التجارية.
4 - العمل لدى الدولة أو لدى جهات النفع العام أو لصالح المجتمع بغير مقابل.
5 - الحظر: حظر إصدار الشيك أو إدارة الأموال أو تولي الوكالات أو إبرام العقود أو مزاولة مهنة.
6 - إصلاح الأضرار التي لحقت بالمجني عليه أو بالدولة نتيجة ارتكاب الجريمة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي