ضوء / باحث روسي ومهتم بحركة الاستعراب وترجمة المخطوطات «3» / محمود الحمزة: قصائد بونين تبرز ألحاناً وصوراً إسلامية

تصغير
تكبير
| موسكو - من هلال الحارثي |
تحدث الباحث الروسي والمهتم في شأن الترجمة والاستعراب- روسي من أصل عربي سوري- الدكتور محمود الحمزة، في حلقتين سابقتين عن الأدب الروسي وعلاقته بالتراث العربي، وهاهو في هذه الحلقة يستكمل حديثه قائلا:
... ويعد إيفان بونين ( 1870 1953 ) من أعظم الأدباء الروس فقد نال جائزة نوبل للآداب عام 1933 واشتهر بشغفه بالشرق ما دفعه أكثر من مرة إلى زيارة بلدانه المختلفة، حيث تعرّف على حياة شعوبها وعلى عادات أبنائها وتقاليدهم... وقد انعكس إعجابه بالشرق وبأهله في أشعاره وفي قصصه ومذكراته... وله عشرات القصائد التي اختار لها عناوين عربي مثل: «ليلة القدر»، «محمد في المنفى (الهجرة) «، «امرؤ القيس»، «البدوي»، «القاهرة»، «القافلة». وهذه بعض قصصه عن الشرق الأوسط: «الدلتا»، «بحر الآلهة»، «اليهودية»، «ظِلّ الطير»، «معبد الشمس»، «صحراء الشيطان» كلها تحكي عن مصر، لبنان، فلسطين، عن الخلود ولحظية الحياة.
أما القصائد «الإسلامية» فهي كثيرة جداً عند بونين، لدرجة أنه لو لم تكن معروفة تفاصيل حياته اليومية وكينونته، لكان من الممكن الاعتقاد أن هذا الأخير بين الكتاب الروس الكلاسيكيين العظام لم يكن يفارق القرآن أبداً، كما لو أنه كان يحمله معه في حقيبة سفره طوال حياته. بل إن الواقع هو كذلك. فقد كانت نسخة من القرآن بترجمة أ. نيكولاييف (لقد تم التثبت من أنها نسخة صادرة في موسكو عام 1901)، بالنسبة لإيفان ألكسييفيتش بمثابة واحد من أهم وأكثر الكتب المقروءة لديه. ففي القصائد، المملوءة بنفحة الشرق الإسلامي، نجد أن الشاعر الروسي كان يتبع القرآن بشكل مباشر، وأحيانا كان يكرر آياته. عدا ذلك، إن بونين قد تابع بإحساس الوارث الشرعي الخاص تقاليد بوشكين و«محاكاته للقرآن».
ولقد سافر بونين في أرجاء الدنيا أكثر بكثير من جميع أولئك الشعراء. ورغم ذلك، فإنه كان من جديد يلبي النداء القاهر ويعود إلى بلاد الإسلام... لكن القصائد، التي تم نظمها أثناء الرحلات أو التي ظهرت إلى الحياة عن طريق الذكريات، كانت تخرج قبل كل شيء من الإحساس المباشر بالأرض والهواء في البلدان المكتشفة، المدن والبلدات، الحدائق والصحارى التي اغرم بها.
هنا مملكة الأحلام. على امتداد مئات الفراسخ
الشواطئ مقفرة عارية مالحة.
لكن الماء فيها بلون الزمرد والسماء
والحرير الأبيض أشد بياضاً من الثلج.
ففي العشرات من قصائده نجد هذا المسيحي الارثوزكسي الغيور، الذي يفاخر بأصوله الروسية النبيلة، وقد استطاع أن يتقمص بالكامل شخصية المسلم، الدرويش المتجول، والحاج إلى المقدسات. وتارة يتحول إلى مغنٍّ يتغنى بالهناء في أجواء الحريم، وأحيانا أخرى إلى شاهد على خلق العالم من قبل الله وشاهد عيان على يوم الحساب العظيم.
ففي بعض القصائد، مثل «ليلة القدر»، «تسبيح»، «الحجر الأسود للكعبة»، «المقام المقد»، «أبراهام. القرآن، السورة السادسة»، «إبليس والإله»، «الطير»، «محمد في المنفى»، «الفقير»، «الخالد»، «عرش سليمان»، «الحجيج»، «يوم الحساب» وفي مجموعة أخرى من القصائد المكتوبة في أعوام مختلفة، نجد أن الشاعر الروسي يتحول إلى روحاني إسلامي متحمس، بل ويظهر كمتصوف حقيقي... وتعتبر قصيدة «السر» من عيون الكنوز الشعرية عند بونين، تلك القصيدة المرفقة باقتباس من القرآن الكريم: «آلم...».
زفر على المِدية وإذ بشفرةِ
خنجرهِ السوري
تلمع في الدخان الأزرق:
وفي الدخان لمعت بوضوح أكبر
على الفولاذ رسوم ذهبية
محفورة بزخرفة من ذهب.
« باسم الله والنبي،
اقرأ، يا عبد السماء والقدر،
نداءك المهين: قل، بأي
شعار قد زُيِّن خنجرك؟»
قال هو: «شعاري رهيب.
إنه سر الأسرار: ألف. لام. ميم».
كما إن قصائد بونين الكثيرة في الغزل هي الأخرى حسنة، والتي تبرز فيها الحان وصور إسلامية. مثلاً، قصيدتان عن الحسناء اليهودية صفية، زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم. في إحداهما، الثمانية الرائعة والتي تسلب شغاف القلب، نجد كيف أن النبرة الدنيوية، الخفيفة بعض الشيء، تتحول فجأة إلى احتفالية.
واعتبر بونين «الديانات السماوية» الثلاث ديانة واحدة، ومع ذلك فقد استطاع أن يشعر بخصوصية الإسلام.
و قد ظلَّ بونين حتى نهاية عمره يحلم بذلك التمازج الساحر بين الحكاية الشرقية والحياة المنفتحة وكانت تدعوه باستمرار إلى السفر:
الصحراء في ضوء خافت، ملتهب.
وخلفها ظلمة وردية.
هناك مآذن ومساجد،
وقببها المزخرفة.
هناك صخب النهر، السوق المسقوفة،
حلم الأزقّة، ظلال الحدائق
وهي تغفو، تفوح بالعسل
على الأسطح أوراق الزهور.
وفي مصر، عند هرم خوفو العظيم، وهو يلمس «الأحجار، التي هي ربما من أقدم الأحجار التي اقتطعها البشر»، عاش بونين إحساس الاتحاد الأخوي مع ذلك الأسير العربي المجهول، الذي شيّد هذه الأحجار. إن هذه المشاركة الوجدانية مع الماضي قد ألهمت أفكاره بخصوص مسيرة التاريخ، دافعة إياه إلى التفكير حول أسباب انهيار الحضارات وحول سبل التطور الإنساني. اليوم، في هذا الزمن الصعب الذي يعيشه الشعب الروسي، ودولته وثقافته، فإن بعض صور بونين تبدو كما لو أنها نبوءات حقيقية ذات قيمة لا تزول. لقد جذبت بونين مساعي الإسكندرية القديمة «لأن تتحول مركزاً لجميع الديانات وجميع المعارف القديمة والتاريخية». لقد أعجب بالشعب المصري العريق، الذي «لم يعرف مثيلاً له لا في العمل، لا في تشييد الآثار، لا في المعارف، ولا في الأخلاق، ولا من حيث الشجاعة، التي كانت تتواجد إلى جانب تواضع جم وثقافة مدهشة بالنسبة لعصره». كما أدهشته إنسانية هذا الشعب، الذي «لم يعرف عبودية المرأة»، «وكان يقدس الحياة بكل أشكالها وتظاهراتها»؛ كما كان يقدّر عالياً الخير، الذي أصبح... «الحجر الأساس في عقيدته وفي جميع تشريعاته اليومية».
أما في تركيا، في مدينة اسطنبول المعاصرة للكاتب، فقد كانت مدعاة للسعادة عند بونين الحرية والعيش المسالم المشترك للشعب المكافح من مختلف القوميات. ولم يكن الكاتب العظيم يطيق الاستعمار ولا العنصرية نهائياً.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي