وجوه أدبية أشرقت في سماء الكويت / محمد الفايز... سندباد البِحَار وسفير البَحَّار

تصغير
تكبير
| إعداد حنان عبد القادر |
منذ نعومة ضفائري... وأنا أبحر في محيطات المشاعر، أتلمس دانات عبقها في أصداف المبحرين الذين تركوا آثارهم هناك، وانطلقوا محلقين أو مبحرين في عوالمها مثلي.
ومنذ طزاجة خيالي، وأنا أحلم مع ألف ليلة، وأحلق في غابات ابن المقفع، أجوب مع السندباد رحلاته برا وبحرا... كنت أحلم بسندباد حقيقي، يحملني معه إلى آفاقه الرحيبة، ورحلاته العجيبة، لأرى عروس البحر أو شبهها، وأكتشف بحر الظلمات الذي طالما قرأت عنه، وتخيلت صولاته ونَوَّاتَه، وكنت أعلم أن سندبادي لابد قادم من الشرق... خليجي الهوى، هندي العبق... عربي النخوة... فارسي الألق، كنعاني الرونق.
ظللت أنتظره يبثني مواجده، يبصرني الحقيقة... وما كنت أعلم وقتها عن الكويت سوى أن بها منارة أطل منها على ثقافات عدة هي مجلة العربي، وما كنت أعلم عن مبدعيها إلا قليلا؛ حتى وقعت بمحض المصادفة على واحد من سندباداتها، وقرأت ماخط من أدب رحلاته في مذكرات شعرية أسماها: «مذكرات بحار».
سأعيد للدنيا حديث «السندبادْ»
ماذا يكون السندباد؟
شتان بين خيال مجنونٍ وعملاقٍ تراهْ
يطوي البحار على هواه
بحبالهِ
بشراعهِ
بإرادةٍ فوق الغيومْ
بيدٍ تكاد عروقها الزرقاء ترتجل النجومْ
وكان أن وجدت نفسي أغوص في بحاره، أرتادها معه على متن «البوم والسنبوك والشوعي»... وكان سيزيف وقتها، كما عن له أن يسمي نفسه واحدا ممن حلمت أن أجوب عوالم الرهبة والدهشة معه... فحملني على جناحات الألم والمعاناة أحلق في أجواء عوالمه الإنسانية، يعرفني ما جهلت منها، فكان سفيرا أنيقا... يتسلل إلى الروح من أرق أبوابها.
أركِبْتَ مثلي «البومَ» و«السنبوكَ» و«الشوعي» الكبيرْ؟
أرفعتَ أشرعةً أمام الريح في الليل الضريرْ؟
هل ذقت زادي في المساء على حصير؟
من نخلةٍ ماتت وما مات العذاب بقلبيَ الدامي الكسير
هذا هو... محمد الفايز، سيزيف، كما عرفته، وعرفه غيري من مثقفي العالم العربي، هذا هو سفير الكويت الذي لم يكلف ديبلوماسيا لتمثيل بلاده في أي قطر... لكنه استطاع أن يعرف بها ، ويربط مشاعرنا بأهلها كأبسط وأرق ما تكون الروابط.
ويعتبر الفايز شاعرا مجددا، كتب القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، ارتبط اسمه بديوانه الأول الذي كان بداية مرحلة جديدة في الشعر الكويتي، حيث توقف عند جوانب جديدة في البيئة الكويتية جعلها مدارًا لقصائده التي جاءت على جانب كبير من التميز والتعبير عن موهبته التي استمر نضجها فيما تلى ذلك من أعمال فوضعته في مصاف الشعراء الكبار في بلاده.
ولاتزال «مذكرات بحار»- عشرون مذكرة - تثير اهتمام الدارسين مفردة، ومتصلة، لإيقاعها المتميز، وصورها الواقعية التي تجسد زمن المعاناة وقوة الحياة والإصرار على الاستمرار.
كما تتميز أشعاره عامة بطرافة الصور المجازية وقوة التخييل.
ويعد الفايز أكثر الشعراء الكويتيين إنتاجا من حيث الدواوين الشعرية، التي أصدرها وأعيدت طباعتها، وغزارة النتاج الأدبي المختلف الذي صور فيه المجتمع المحلي تصويرا حيا وصادقا، وعانق عبر منظوماته الإبداعية وصوره الشعرية هموم الإنسان الكويتي سواء أكانت ذاتية أم موضوعية من خلال التعبير عما هو محلي ووطني وقومي وإنساني.
أنا ما رأيت
لكنني مازلت أذكر نار موقدنا بمنزلنا القديم
وحديث والدي الضرير عن الحياة
وعن الحروب. حروبِنا ضد َ الغزاة
الأرض ُ قاحِلة ٌ هنا حتى الذئاب
تخشى ظهيرتها. ولكن الملوك
و (الترك) و(الألمان ) والمتسللون
باسم الحضارة والحماية... هؤلاء المدعون
كم حاربونا بالأساطيل الكبيرة . . والجنود
يترصدون شراع َ غواص ٍ يعود
كي يغرقوه
كي يقتلوه
وقد خاض شعره في كثير من القضايا والمواضيع الشخصية والوجدانية والواقعية والطبيعية والرمزية، كما ندد بالعدوان الجائر والاحتلال البغيض للبلاد، وجسد بكل صدق دناءة هذه الحرب الغادرة التي اكتوى بها الإنسان الكويتي أيما اكتواء.
يانار َ صحراء ِ الجنوب
وأنا وراء السور ِ أسمعها. فأشعر باللهيب
والنار في رأسي تُعربدُ .أين تجار ُ الحروب؟
أين الذين يشوهون الأرض بالدم ِ والدخان؟
كما عبر عن انتكاس الإنسان العربي وضياعه وانهياره مع ضعف الأمة العربية الإسلامية و تخلفها المحبط، وهزائمها المتكررة.
وقبلَ أن تخرجوا من كهفكم خرجتْ
لكــم روائحُ أمــواتٍ بأحيـاءِ
تعفنت فيكمُ الأفكـــارُ وانحرفتْ
شخوصُكم فهْيَ ظلّ النجمِ في الماءِ
ها أنتم الصور الأولــَى مكـررةً
ومــا تبدّل فيكــم غيرُ أزيـاء
وإننا لنجد شاعرنا قد جرب جميع الأشكال الفنية والجمالية المعروفة في الساحة الإبداعية العربية، فقد انتقل في دواوينه الشعرية من الشعرالخليلي إلى شعر التفعيلة، كما استفاد من التقنيات التعبيرية كتوظيف المستنسخات التناصية، واستعمال الرموز، وتوظيف الأساطير.
في البحر ترسُم عالما ً نشوانَ من نور وماء
يجتثّنا ويطير فينا في الفضاء
للحور. للجنات. للدنيا الجميلة
عندي حكايات ُ لها من (الف ِ ليلة)
من (شهرزاد) وليلها المخمور ِ. ليل ِ الحالمات
الشاربات ِ الماء من شط ِ النجوم
مثل َ التي كانت تُغني للغيوم
فتصير ناراً ثم تُمطر.
إننا نجد في أشعار الفايز - خاصة في مذكراته - تحدياً ينبع من صميم استقرائه لبيئته، وفهمه للإنسان واحتياجاته فيها، وبالتالي فهو يحمل مصداقية كبيرة وعميقة تستوجب من قارئه أن يحترمه، ويقدر إبداعه.
إن محمد الفايز يعد من أهم الشعراء في الكويت، وأبرز من كتب عن واقع البحر و البحار الباحث عن رزقه بين الريح والموت والعاصفة. وكم كان صادقا وصائبا في سرده لهذا السفر الخالد الذي خطه الأجداد بمداد التحدي، وكم كانت ريشته مفعمة بالإبداع حينما رسمت تلك المشاهد والصور الرائعة التي تعكس حجم المصاعب والظروف القاسية، التي واجهها رجال البحر وهم يخوضون غمار البحار النائية ويغوصون في ظلماته المخيفة في عناد لا نظير له، وعزيمة فولاذية لا تلين وإصرار لا يعرف المستحيل.
ولو لم يكتب محمد الفايز سوى «مذكرات بحار»، لكفاه ذلك فخرا لأنها تعد ملحمة شعرية رائعة قدم فيها تفاصيل دقيقة عن حياة البحر والبحارة، ومن خلال هذه الملحمة صور الفايز حياة أهل الخليج أيام البحر والغوص في أروع صورة .
ثم رحل الفايز... فبعد أن تحررت الكويت في 26 فبراير 1991 هدأت روح الشاعر وسافرت إلى مستقرها الأخير في سلام.
كان ذلك في السابع والعشرين من فبراير عام 1991 م، وعاش في وجدان هذا الوطن شاعرا مبدعا لاينسى.
* كاتبة وشاعرة مصرية
[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي