لما خلق الله تعالى الخلق ونصب السماء وبسط الأرض ونوَّع فيها المعايش وقسم الأرزاق وأعطى الإنسان العقل الذي يميز بين الصواب والخطأ، لم يترك الخلق سُدى كما لم يخلقهم عبثَاً قال تعالى (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لاترجعون)، واقتضت حكمته وعزته وكماله بأن وضع الله الميزان أي العدل بين العباد ليزنوا به الأقوال والأفعال.
وهذا الميزان المعنوي المعروف بالشرع الذي وافق العقل والفطرة السوية، ويدخل فيه جميع الموازين الدقيقة والثقيلة والمكاييل، التي تكال بها الأشياء والمقادير والمسافات التي تضبط بها المجهولات والحقائق، التي يفصل بها بين المخلوقات ويُقام بها العدل بين الناس، كما أمرهم الله سبحانه بعدم تجاوز الحد في الميزان، سواء كان في الماديات أو المعنويات، إذ إن الأمر لو كان يرجع إلى عقول البشر واجتهاداتهم لحصل من الخلل ما الله به عليم ولفسدت السموات والأرض ومن فيها، ثم أمرهم سبحانه وتعالى أن يقيموا الوزن بالقسط أي العدل ونهاهم عن العمل بضده وهو الظلم والجور والطغيان، وهذه القاعدة وهذا الميزان مع الجميع، القريب والبعيد والعدو والصديق قال تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى? أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
وأن يكون القيام بالعدل لوجه الله وحده لا لغرض من الأغراض الدنيوية، فالعدل مطلوب من الجميع وعلى الجميع في الأقوال والأفعال بلا إفراط ولا تفريط، وهذا التوجيه الإلهي قلَّ من يسمعه ونَدَرَ من يطبقه وهو لا يحملنكم بُغض قوم على ألا تعدلوا كما يفعله من لاعدل عنده ولا قسط بل كما تشهدون لوليكم فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له، ولو كان كافراً أو مبتدعاً أو فاسقاً، فإنه يجب العدل فيه وقبول ما يأتي به من الحق لأنه حق لا لأنه قاله، ولا يُرد الحق لأجل قوله فإن هذا ظُلم للحق، وكلما حرص الإنسان على العدل واجتهد في العمل به كلما كان ذلك أقرب لتقوى القلوب، فإن تم العدل كملت التقوى وكلما نقص العدل وانتقض نقصت التقوى أو انتقضت.