حديث

مثقفون بهوية عربية

No Image
تصغير
تكبير

في كتابه الشهير «المثقف والسلطة» عرض إدوارد سعيد المفكر الأميركي؛ الفلسطيني الأصل، الصورة الحقيقية للمثقف وطبيعة علاقته بالسلطة السياسية على مدار التاريخ. عرض إدوارد سعيد المثقف أو المفكر حسب رؤية أصحابها عندما قال: إن المناضل الايطالي والفيلسوف أنطونيو غرامشي يرى: «أن جميع الناس مفكرون» ويضيف «ولكن وظيفة المثقف أو المفكِّر في المجتمع لا يقوم بها كلُّ الناس».
وقد صنف غرامشي المثقفين إلى نوعين مختلفين: الأول هم المثقَّفون التقليديون والذي يشمل رجال الدين، المعلِّمين والإداريين... والذين يقومون بوظيفة التفكير نفسها يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، أي أن أفكارهم غير متجدِّدة بل هي متكررة بلا أي جانب من جوانب الإبداع والتطوير. أمَّا الصنف الثاني فهم المثقَّفون المنسِّقون والذين يرى أنَّهم مرتبطون ارتباطاً مباشراً بالطبقات السياسية والنخب التجارية التي تستخدم المثقّفين في دعم مصالحها ومكتسباتها من السلطة والنفوذ.
أمَّا التعريف الثاني للمثقف، وهو التعريف الأكثر شيوعاً الذي قاله جوليان بندا في كتابه «خيانة المثقفين» في العام 1927. حيث جاء فيه أن المثقَّفين عبارة عن: «عصبة ضئيلة من الملوك الفلاسفة من ذوي القدرات أو المواهب الفائقة والأخلاق الرفيعة»، وأنهم يشكّلون «طبقة العلماء والمتعلّمين البالغي الندرة نظراً لما ينادون به ويدافعون عنه من قضايا الحقّ والعدل».


كانت هذه المقدمة ضرورية نظراً لأنه ما أن تبدأ الأحداث السياسية أو الاقتصادية بتصدر نشرات الأخبار حتى تندلع حمى البرامج الحوارية التي تتسابق على استضافة المثقفين والخبراء من المجالات كافة من أجل التعليق وتحليل مجريات الأحداث وفق تصورهم ورؤيتهم.
وبسبب الفضول أو رغبة في فهم الأسباب وراء هذه الحادثة أو تلك أبدأ في التقليب ما بين القنوات الفضائية بحثاً عمن يروي غليلي ويفسر الأحداث بطريقة تتوافق مع العقل والمنطق بعيداً عن المزايدات والمغالطات والمبالغات، وكم أعجبني وجود عدد لا بأس به من المثقفين العرب الذين يتقنون الحديث مع الكاميرات ولديهم قدرة آسرة في جذب المشاهد مهما كانت توجهاته وأهواؤه.
هذه الظاهرة المبشرة بالخير تبعث فينا الأمل وتؤكد بأن أمتنا العربية ما زالت شابة قادرة على إنجاب أبناء أسوياء عقلاء قادرين على مساعدة أمتهم في النهوض من عثراتها الكثيرة، وربما قد يأتي اليوم الذي سيكون فيه المثقف هو الحجر الأساس والمحرك لأي تغيير سياسي أو أيديولوجي أو اجتماعي أو حتى اقتصادي.
إن علاقة المثقف بالنخب السياسية هي علاقة تشكلت عبر التاريخ ليتم تطويع بعضهم من أجل الدفاع عن السلوكيات الخاطئة، وتزيين الباطل وتقبيح الحق مما شكل حاجزاً عالياً جداً بين عامة الناس والمثقفين نظراً لانعدام الثقة بهم وتاريخ بعضهم الطويل في محاباة السلطة والقوة على حساب الحق وأهله.
وبتحليل منطقي للواقع المعاصر نجد أن رجال الدين الذين كان لهم تأثير بالغ في صناعة القرار الشعبي العربي، هذه المكانة المرموقة قد تراجعت بل وتلاشت ليحل محلها مثقفو السلطة وبعض المحسوبين على السلطة من الفنانين ولاعبي كرة القدم وغيرهم، وحينها تبدلت المفاهيم وتغيرت الآراء وضاعت الحقائق.
خاض أولئك المثقفون الجدد بأمور الدولة والسياسة بطريقة أساءت لها أكثر ما أفادتها ووقعوا في هفوات وسقطات لا أقل أن يقال عنها بأنها سقطات ساذجة لعقول، لم تعرف يوما معنى التفكير والتحليل المنطقي مما زاد الطين بلة فانقلب السحر على الساحر وأصبحت مشاركاتهم وصمة عار على أي سياسي يلجأ لهم عندما يشتد عليه الخناق.
المثقف هو ابن مجتمعه وبالتأكيد لن يكون مستورداً ليفصل لنا حلولاً غربية على جسد وعقل عربي مسلم، وأيضاً لا بد أن يكون المثقف صاحب رؤية وله رصيد عال من المعلومات في مجال تخصصه ويمتلك القدرة على الربط بين الأحداث وتحليلها بعيداً عن الإغراءات والإملاءات.
مثقفونا مبدعون فقط لو كان لهم أن يقودوا أمتنا بعيدا عن النظريات الغربية البالية والأيديولجيات التي صنعت لشعوب أخرى لا تتلاءم مع واقعنا، أما مثقفو الصالونات الذين يعيشون في بروجهم العاجية فنحن في أمس الحاجة إلى أن يغيبوا عن الشاشة تماماً فقد أزكمت روائح أفعالهم أنوفنا.
ومن أجمل التعريفات الحديثة التي شاهدتها في أحد مقاطع الفيديو للمثقف هو ذلك الشخص الذي لديه رغبة هائلة في المعرفة، وشغف للتطوير والتغيير نحو الأفضل دائماً، وهذه الفئة من الناس ليست نادرة ولكنها بعيدة جداً عن وسائل الإعلام أو صناع القرار نظرا لخطرهم الحقيقي على أصحاب السلطة في أي موقع كانوا... وكم أتمنى فعلاً أن يأتي اليوم ليكونوا في مكانهم الصحيح ليساعدوا في بث الحياة في أجسادنا الميتة قهراً.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي