نقد أدبي

بطولة الموت... في أعمال النصر الله والعيسى والمطوع

تصغير
تكبير

تضمّن بعض الروايات فكرة الموت كمحور أساسي في الحبكة، مما يجعل الرواية تقوم على مواجهة مستمرة مع شبحه، بحيث يدس الكاتب في هيكل الرواية الموت كمؤثر عارض تقوم عليه مخاوف الشخصيات من ذلك العالم المجهول، أو الترقّب الفزع لطريق المنون الغامض، أو التأسي على راحل، وهذا أمر مفهوم، بحيث يجعل فكرة الموت مساعدة في إدارة عجلة الحكاية.
روايات أخرى كرّست بطولة الموت بصورة أكثر تركيزاً، بحيث ابتعدت عن الجانب المألوف في تقديمه، وأزالت عناصر تقليدية ومألوفة تخصه: كالمفاجأة والخوف وألم الفقد، وحوّرت حضور الموت بتقديمه بطريقة إبداعية وملتفة على نمطيته، ثم أعطته بطولة مطلقة، أو لنقل صار الموت ارتكاز الرواية و محركها الأساسي.
1 - عدسة على عالم الأموات في الدرك الأعلى لـ خالد النصرالله:


أجــد أن روايــة الدرك الأعلى لـ خالد النصرالله الصادرة عن نوفا بلس رواية متسعة وقابلة لإعطائك في كل قراءة بعداً جديداً، وبغض النظر عن الجوانب الفنية الجميلة التي قدم الكاتب الرواية من خلالها؛ كتقنية تعدد أصوات السرد، أو كتضمين رسائل عدة على المستوى الإنساني: النفسي والعقدي والاجتماعي أيضاً وحتى هواجس الإنسان الكاتب ومخاضات إبداعه وإنتاجه؛ نلاحظ أن الرواية بُنيت على ركيزة أساسية وهي عالم الرجل الميت الذي يبقى في «برزخ» بين الغياب المطلق والحضور الآني لسبب ما.
ورغم أن فكرة «الغياب المؤجل» قد وردت في بعض المواد المرئية والمسوعة، فكرة الميت الذي لا يستقر في عالمه الأخير حتى يُنجز مهمة معلقة أو يسدد دينا ما، وأذكر في هذا الصدد قصة من المكتبة الخضراء بعنوان الرفيق المجهول حوت الفكرة نفسها، إلا أن الكاتب في رواية الدرك الأعلى تجاوز هذه التقليدية في رسم عالم «الرجل الميت»، ووظف الكثير من اشتغال المخيلة لتأثيث ذلك العالم فلم يفرط - كما المعتاد - في التركيز على المهمة أو المانع لانتقال الرجل الميت إلى المحطة الأخيرة بل حرص على «اقناع» المتلقي بسرد متمكن الأدوات بأنه يعاين فعلا عالما جديدا بشخوصه و حواراته.
فنجد أن شخصية «الرجل الميت»:
- تستذكر
- تعاين
- تلتقي بأشباهها المحصورين في قنطرة الانتظار
- تكتشف جديداً عن عالم الموت الملغز
وما أريد قوله هو أن تلك منطقة جديدة من مناطق الموت يقودنا إليها الكاتب عبر اشتغال متقن ومقنع ومتفق مع كل مكونات الرواية.
2 - مواجهات مستمرة مع الموت في «عائشة تنزل للعالم السفلي» لـ بثينة العيسى:
بثينة العيسى في روايتها المميزة «عائشة تنزل للعالم السفلي» تقدم بعداً فلسفياً مختلفاً للمواجهات المستمرة مع موت يتراوح بين منطقتي القبول والرفض.
وهذه الرواية تقوم أيضا على الموت محركاً أساسياً لا تدور عجلة الرواية من دونه.
فـ عائشة - شخصية النص - امرأة ثكلى تلامس الموت في كل ذكرى تعود ليــوم وفـــاة ابــنهــا ذي الأعــوام الخــمـــس وتــتجسد لهــا كل عــلامــات «نزع الروح» إن وفق التعبير، فيكون الموت بتوليفة عدائيته وألفته ضيفا ولصا يعاود الحضور في حياة عائشة فيسلبها رائحة البال، لدرجة أنها تتمنى يوماً أن تكون كامرأة طبيعية تتعامل مع الزوج والأهل بتلقائية من دون السقوط في حُفر: الكآبة والإحساس بالتقصير في حق الطفل الراحل والقلق مما سيأتي به حضور الموت في كل مرة.
من المميز في الرواية أن الكاتبة طعمت النص بفصول شديدة الاشتغال التجريدي، وأخذت بالقارئ إلى مناطق مدهشة لتتسع ذائقته، فيتعرف الموت من خلال خيال الكاتبة وأساطير الثقافات الأخرى مما شكل في الرواية وجوها أخرى متراوحة بين المدرسة الواقعية و الواقعية السحرية، وكل ذلك في تمازج محكم متناسق يقنص كل وعي المتلقي ويحيله إلى كائن شديد الالتصاق بشخصية الرواية.
3 - الموت مضخة الحياة في رواية «تراب» لـ حسين المطوع:
رواية «تراب» للكاتب حسين المطوع رواية مربكة ومتعبة، لأنها تغوص بعمق في أشياء الإنسان وتقلباته وما يمكن أن يصدر منه لأي هدف، وأعتقد أن الذكاء السردي للكاتب والذي قدّم روايته - كمساحة كبيرة منها - من خلال الفصول المشهدية التي تحيل المتلقي للفهم من خلال حوار الشخصيات والذي أعتقده آلية كشف.
تراب نموذج آخر لهيمنة الموت على مكونات الرواية، فالموت في تلك القرية المأزومة هو - بكل غرابة - باب الازدهار و محور الأحداث!
وإذا كانت رواية انقطاعات الموت لـ سرماغو تصف حال قرية غاب عنها الموت فإن رواية تراب هي النقيض لها تماما، والحقيقة أجد أن النقيض يبدي جمال النقيض.
رواية «تراب» تقدّم الموت من خلال نظرة الشخصية الأساسية (فهد) حافر القبور بصورة مختلفة عن المألوف، صورة طاغية، مشتهاة، يسعى إليها البطل، و يكرّسها من خلال كل سكناته وحركاته وخطراته، نجد (فهد) أحياناً يفرح بقنائص الموت الجاهزة وأحيانا أخرى يرتب الضحايا للقاء الأخير.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي