شخصيات من الذاكرة
محمد مساعد الصالح (1)



تزخر الصحف الكويتية اليومية بالعديد من كُتّاب المقالات منهم المحترفون ومنهم الهواة ومنهم مَنْ ما زال يتلمس طريق الإبداع والشهرة والنجاح. ولكن بالعودة للوراء بضع عقود في العصر الذهبي للصحافة الكويتية برز الكاتب الراحل محمد مساعد الصالح (عميد الصحافة الكويتية)، كواحد من ألمع نجوم الصحافة وصاحب القلم الأكثر تأثيراً في الواقع الاجتماعي الكويتي.
عَرَفته من خلال اهتمام والدي بمقالاته في صحيفة «الوطن» قبل العام 1990 وعرفته عن قرب أكثر من خلال قراءتي لمقالاته في صحيفة «القبس» وتحت عنوان «الله بالخير».
كانت كلماته وحروفه هي الوسيلة التي استطعت أن أميز من خلالها شخصية هذا الرجل المبدع... لم أعرفه محامياً ولم أعرفه تاجراً ولكني عرفته كاتباً محترفاً تستفز كلماته البعض أحياناً وتؤلب ضده بعض الخصوم أحياناً أخرى، ولكنه تميز بأنه صاحب قلم ساخر تلمس من بين سطوره معان دفينة محاكة بأسلوب خاص.
كُنت كلما تناولت الصحيفة أبحث عن مقاله لأستفتح القراءة بمقاله بكل بشغف، فمقالاته مثل المقبّلات التي لا أستطيع أن أبدأ بتناول الوجبة الدسمة دونها أو كأنه مثل فنجان قهوة الصباح أرتشفه على مهل بكل متعة.
رجل قومي من الطراز الأول، إنه ابن زمانه ومكانه، عاصر الثورة المصرية في العام 1952 بكل أحداثها وعاش فيها ومعها تجارب عديدة في فنون إدارة الثورات ولكن في مضمار يتقنه؛ إنه مضمار الكتابة الذي أبدع فيه حتى أمسى أشهر كاتب مقال في الصحافة الكويتية لعقود.
كانت بدايته مع الكتابة من خلال تاريخه القومي الذي جلب معه بعض المتاعب، والذي على ما يبدو أنه نتاج طبيعي لرجل قومي «ناصري» عاش أجواء الانتصارات والهزائم العربية فأطلق لقلمه العنان وسخره لخدمة أفكاره القومية الناضجة التي كانت تعتبر فكرا ليبراليا متحرراً نوعا ما في الستينات والسبعينات من القرن العشرين.
كان مدافعاً شرساً عن حرية الرأي في الكويت ويرفض أن يكون هنالك أي نوع من الوصاية «الحكومية» أو «المجتمعية» عليه، كما كان في الوقت نفسه مؤيداً لإصدار المزيد من الصحف اليومية نظراً لأن ذلك يعد نوعاً من حرية الرأي التي كفلها الدستور وقامت على أساسه دولة الكويت الحديثة، التي تميزت بصحافة عز نظيرها.
وعلى ما يبدو أن قدر محمد مساعد الصالح في التخرج من المدرسة المباركية، مثل معظم من تخرج منها أن يكون واحداً من أصحاب البصمات الخالدة، فمعظم قادة دولة الكويت ورموزها قد مروا على مصنع الكفاءات هذا، وكأنها زرعت فيهم نواة ليكونوا قدوة للأجيال التي تتلمذت على يديهم وفي مدرستهم الخلّاقة.
ولم أستغرب أبدا أنه لم ينجح في أن يكون نائباً برلمانياً، وقد يكون هذا من حسن حظه وحظ القراء من حيث علم ذلك أم لم يعلم، فالعمل البرلماني يتطلب انشغالاً تاماً قد يمنعه من ممارسة عمله الصحافي بكل مهنية... ثم إن ذلك كان في صالح صناعة الصحافة الكويتية من خلال رئاسته لتحرير صحف عدة منها مجلة الهدف وجريدة الوطن والتي قد لا يحققها لو أصبح نائباً برلمانياً.
كاتب مقال يومي لسنوات طويلة... أمر يستحق الوقوف عنده قليلاً، فهذا عمل يتطلب من صاحبه القدرة على المتابعة اليومية للأحداث المحلية والإقليمية والعالمية، ثم بعد أن يتكون لديه رأي خاص بها ينطلق مداد قلمه في كتابة كلماته وحروفه التي تزخر بالفائدة، وهذا عمل شاق يجعل صاحبه يعيش في قلق دائم لما يسببه من ضغوط نفسية مستمرة وبصفة يومية... ماذا سأكتب اليوم؟ ماذا سأكتب غدا؟ هل أستطيع إيجاز الفكرة بشكل لا يؤثر على الحبكة الصحافية والمهنية... هل ستغضب القيادة السياسية أو البرلمانيون أو أي أطراف سياسية أو تجارية أخرى؟ كلها أسئلة من المؤكد أنها خالجته وهو يخط حروف كل مقال، وهذا طبيعي فالصحافي المحترف بفطرته يستطيع أن يكتب ويوصل رسالته من دون تجاوز للخطوط الحمراء، وفي الوقت نفسه لا بد أحيانا من بعض المغامرة أو المقامرة بسبب إحساسه بالمسؤولية تجاه القراء وأبناء الوطن، وإحساسه نحو ذاته وقيمه ومبادئه التي عاش ومات لأجلها.
وأستطيع فعلاً أن أتخيل مقدار معاناته اليومية في الكتابة ولكن هذه المهام الجسام تحتاج لنوع من الفرسان الذين امتطوا صهوة أقلامهم وخاضوا بها معاركهم في صولات وجولات لم تخلو من بعض الإصابات والكدمات والرضوض.
ومما يؤسف له أنني لم أجد له الكثير من المقابلات التلفزيونية على الإنترنت، التي ترضي فضولي وتشبع حوائجي في محاولة مني لفهم واستيعاب هذه الشخصية اللامعة، وقد يكون ذلك... ربما... أقول ربما... لعدم رغبته الشخصية أو أنه جاء الأمر كذلك من دون تدبير أو تخطيط خصوصاً أنه لم يعش عالم الإنترنت في ثورته الكبرى وانفتاحنا عليه بالشكل الذي نعيشه اليوم.
z_alweher@hotmail.com