بوح صريح

الرمادي يفوز أحياناً!

تصغير
تكبير

يحكى أنه في قديم الزمان. لم يكن على الأرض بشر بعد بل كانت الفضائل والرذائل ‏تطوف العالم معاً، وتشعر بالملل الشديد. ‏وكحل لمشكلة الملل هذه. اقترح الإبداع لعبة. فصرخ الجنون: ‏«أريد أن أبدأ. أنا من سيغمض عينيه ‏ويبدأ العد. وأنتم عليكم الاختفاء». ثم بدأ العد. وبدأت الفضائل والرذائل في الاختباء. وجدت الرقة مكاناً لنفسها فوق القمر. وأخفت الخيانة نفسها في كومة قمامة. والرقي ‏بين الغيوم. والصفاء في نبع ماء.
ومضى الشوق إلى باطن الأرض. قال الكذب بصوت عال: ‏سأخفي نفسي تحت الحجارة. ثم أتوجه لقعر البحيرة. واستمر الجنون في العد: ‏تسعة وسبعون ‏ثمانون ‏واحد وثمانون.
خلال ذلك اختبأت كل الفضائل والرذائل ‏ما عدا الحب - كعادته - ‏لم يكن صاحب قرار ‏وبالتالي لم يقرر أين يختفي. وهذا لم يكن مفاجئاً لأحد. فالكل ‏يعلم كم هو صعب إخفاء الحب. عندما وصل الجنون في عدّه إلى المئة. قفز الحب وسط كومة من الورد ‏واختفى داخلها.


فتح الجنون عينيه. ‏وبدأ البحث صائحاً: «‏أنا آت اليكم... ‏أنا آت». كان الكسل أول من انكشف ‏لأنه لم يبذل أي جهد في إخفاء نفسه. ثم ظهرت الرقّة المختفية في القمر. وبعدها ‏خرج الكذب من قاع البحيرة مقطوع النفس. وأشار على الشوق أن يرجع من باطن الأرض. وجدهم الجنون جميعاً. ‏واحداً بعد الآخر ما عدا الحب. كاد يصاب بالإحباط واليأس في بحثه عن الحب. ‏حين اقترب منه الحسد. وهمس له: الحب مختف في كومة الورد. التقط الجنون شوكة خشبية أشبه بالرمح. ‏وبدأ في طعن كومة الورد بشكل طائش. ولم يتوقف إلا عندما سمع صوت بكاء يمزق القلوب. ظهر الحب. ‏وهو يحجب عينيه بيديه ‏والدم يقطر من بين أصابعه.
صاح الجنون نادماً: ‏يا إلهي ماذا فعلت؟
ماذا أفعل كي أصلح غلطتي بعد أن أفقدتك البصر؟
أجابه الحب: ‏لن تستطيع إعادة النظر لي. ‏لكن لا يزال هناك ما تستطيع فعله لأجلي. ‏كن دليلي. وهذا ما حصل من يومها. صار الجنون دليل الحب فارتبطا.
لكن لنسأل السؤال التالي: هل الأخلاق عمياء.
الإجابة هي نعم. لو كانت تسير وفق الأهواء والأمزجة وتقلبات النفس.
أليس صحيحاً أن الأخلاق ظهرت مع الإنسان. الذي منذ بدء الخلق وظهوره وهو منشغل بفكرة الصواب والخطأ والمكافأة والعقاب. فالأخلاق علم مستقل قائم بذاته يتبع الفلسفة، وتتضمن الفضائل والمبادئ النظرية وكيفية تطبيقها وامتلاك الفرد للشخصية الأخلاقية.
فبعض الجهلاء - الذين أساؤوا تفسير الدين - شجعوا على التكفير والإرهاب والتفجير والقتل.
لذا فإن أخطر ما يهدد الفرد هو منح الآخر الفرصة ليقرر ويحدد له كيف يعيش وما هو مصيره، يفقد الفرد معنى وجدوى وجوده حين يقتصر دوره في الحياة على ردة فعل لا فعل وتفاعل. ولن يتمكن من أن يكون فاعلاً وسط جماعة تسيطر على سلوكه وفكره وتقيده بنمط محدد اجتماعي، فيصبح مجرد مفعول به. أو رقم في الإحصائية.
عندما لا تقدر فتاة على الاختيار. فتترك الأمر للمجتمع والعادات والتقاليد المتوارثة للتقرير عنها. وكذلك المعلم يقرر عن الطفل. الشاب يترك القرار لأمه، والأم للخادمة، ويترك الأب القرار لرئيسه. ورئيسه للممول. وصاحب مؤسسة إعلامية للتاجر الذي يدفع. والتاجر للسياسي الذي يسن القانون. والسياسي...
وقد تفاجأ أحياناً بأن الشخصية الهامشية - التي نظنها ضعيفة - هي من تقرر وتحرك كبار الشخصيات وتدير الأمور. كالخادمة في البيت وصبي الشاي وعامل المراسلات والسكرتير... فلدى هؤلاء مفاتيح رؤسائهم. كما أن لديهم مفاتيح المكاتب ووسائل الوصول إلى الورق والعقود والفواتير وأولويات الاطلاع والقبول والفوز وغيرها.
وكما هناك في التجارة استيراد وتصدير، كذلك في المجتمع هناك استيراد القرار وتصديره من وإلى، حسب النفوذ والموقع والفائدة والمصلحة. الاستيراد للضعيف والكادح الشقي، الذي ينتظر طوق النجاة. والتصدير لمن لديه الكفة العلوية والجهة الأقوى. من يملك الميكروفون والقلم والبشت والكرسي والسوط.
تكلم الفيلسوف مارتن هيدجر عن بعض هذه النقاط. فقال إن تحقق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص ضروري للمواطنة الحقة، ولخلق مواطن مؤهل لاتخاذ قرارات تخص مصيره، فالانتماء يقابله فرد فاعل. أي فعال في المجتمع. يعيش حياة حرة كريمة بلا اغتراب.
ثم تحدث عن الوجود الزائف، وهو الوجود النمطي غير المميز والغارق في روتين الحاضر. حين ينفصل الشخص عن حرية تناول واتخاذ اختياراته الذاتية التي تعبر عن شخصيته وتحقيق إمكانياته الخاصة المبدعة والمبتكرة. فالفرد يبتكر نفسه عبر قدراته الخلاقة ومواهبه التي تخصه وحده ولا يشبهه فيها أحد، لكنه يسقط في الوجود المزيف حين يصبح تابعاً لإرادة الآخرين، ويغرق في حالة اغتراب وعزلة عن ذاته فيصبح غريباً عن نفسه. مثلاً، روتين الحياة اليومية من مهام أسرية والوظيفة التي تفرغه من أهداف وجوده الحقيقي.
كيف يمكنه التخلص من هذا الوجود الزائف؟ يجيب: عن طريق استمرار العيش بالقلق. وهو ما يبعد الفرد عن حالة الثرثرة غير المجدية والاطمئنان للوهم الذي يؤدي لتراخي الفكرة وغياب الجدل. اما القلق الإيجابي فهو الذي يوقظ الفضول والدهشة والسؤال.
كيف يتخلص الفرد من هذا الوجود الزائف ليحقق وجوده الذاتي الأصيل وحريته؟ يجيب هيدجر: بالهروب من وجوده الزائف مع الآخرين والعودة إلى ذاته. هناك تكمن الحرية الأصيلة، في نبذ الآخرين ورسم الشخصية الأخلاقية التي تتناسب ونمط التربية والتنشئة التي نشأ عليها. إن التواجد مع الآخرين والذوبان في الجماعة، يجعل الفرد يتنازل عن مبادئه ويبعد تدريجياً عن شخصيته الأخلاقية. لذلك تكمن حرية الفرد في العزلة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي