No Script

«أسياد الصحراء»... يعيد توثيق فصول الصراع بين واشنطن ولندن للهيمنة على شرق أوسط ما بعد الحرب العالمية الثانية (3 من 3)

قصة جاسوس قَلَبَ موازين اللعبة... بالانقلابات!

تصغير
تكبير
  • في العام 1951  أوفدت واشنطن  كيم روزفلت في مهمة استخباراتية إلى الشرق الأوسط بهدف الاستطلاع وجس النبض 
  • روزفلت كتب  في مذكراته أنه تواصل سراً مع «الضباط الأحرار»... والتقى عددا منهم لاحقا في قبرص! 
  • اغتيال الرئيس  جون إف كينيدي أنهى نظرية روزفلت... وأفسح المجال  لأنصار فكرة اتخاذ اسرائيل كحليف حقيقي وحيد لواشنطن  في المنطقة

في مواضع متعددة من كتاب «أسياد الصحراء»، يُبرز مؤلفه أهمية ومدى تأثير الأدوار «الخفية» التي لعبها ضابط الاستخبارات الأميركي كيرمت روزفلت (الابن) الذي اشتهر بـ«كيم روزفلت». ويستشهد المؤلف في ذلك بمعلومات يؤكد أنه استقاها من وثائق أميركية وبريطانية أميط لثام السرية عنها أخيرا، وهي الوثائق التي تبرز أبعاد وحجم الدور الذي مارسه ذلك الجاسوس من خلف الكواليس لدعم والتخطيط والإعداد لعدد من الانقلابات التي أدت إلى إطاحة حكام وحكومات عدد من الدول شرق أوسطية، بما في ذلك مصر والعراق وإيران.
وإلى حد كبير، يوضح مؤلف الكتاب أنه من الصعب فهم حقيقة ما قامت به حكومة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلا من خلال فهم الأدوار التي قام بها ذلك الضابط الاستخباراتي الذي يمكن القول إنه كان له دور مؤثر جداً في قلب موازين الهيمنة في منطقة الشرق الأوسط لصالح بلاده بعد أن ظلت لعقود في يد بريطانيا العظمى.
لهذا، نخصص هذه الحلقة الثالثة والأخيرة من سلسلة عرض كتاب «أسياد الصحراء» لتسليط الضوء على مسيرة الجاسوس كيم روزفلت الذي أجمعت مصادر استخباراتية أميركية وبريطانية على أنه كان بمثابة «المهندس» الذي رسم مخططات معظم الانقلابات التي شهدتها المنطقة خلال تلك الفترة الحاسمة، وهي الانقلابات التي غيرت المشهد الجيوسياسي في المنطقة إلى حد كبير...

صراع... في واشنطن

في كتابه الذي عنوانه: «لعبة أميركا العظمى» الذي نشر في العام 2013، يرصد المؤرخ الاستخباراتي الأميركي هيو ويلفورد كيف أن تياراً منشقاً جديدا نشأ داخل الاستخبارات الأميركية وتسبب في خلق صراع بين مؤسسات عدة خلال الفترة بين حربي العامين 1948 و1967تحديدا.
ووفقاً لما جاء في كتاب ويلفورد، فإن انشقاقاً حصل في واشنطن أواخر أربعينيات القرن العشرين حول كيفية التصدي للزحف الشيوعي على منطقة الشرق الأوسط، حيث كان العالم منقسماً آنذاك إلى كتلة شرقية يتزعمها الاتحاد السوفياتي، وأخرى غربية تقودها الولايات المتحدة كقوة عظمى ناشئة.
وكانت دول الشرق الأوسط آنذاك خارج حسابات أي تحالف سياسي عالمي، ولم يكن لدى أي منها اي انحياز واضح إلى أي من هاتين الكتلتين. لكن مع ظهور النفط في دول شرق أوسطية عدة، بدأ التنافس المحموم بين هاتين الكتلتين (وحتى بين قوى من كل كتلة) على المنطقة، وذلك بأساليب وأشكال متنوعة كان من بينها – وأهمها – المخادعات الاستخباراتية التي تعتمد على الجاسوسية بطبيعة الحال.
ويوضح الكتاب «أسياد الصحراء»، كان هنالك في ثنايا الكتلة الغربية صراع آخر بدأته الولايات المتحدة بهدف سحب البساط من تحت أقدام القوى الاستعمارية القديمة (وتحديدا بريطانيا وفرنسا)، وفي هذا الإطار لم يكن لدى الأميركيين مانع من التحالف الموقت مع الاتحاد السوفياتي في بعض المفاصل.

تنظيم استخباراتي...
واجهته سياسية

في ذلك الوقت، ظهر في دوائر القرار الأميركي فريقان متمايزان. الفريق الأول كان يرى أنه من الأفضل تأجيج وتوظيف مشاعر القومية العربية ضد الوجود البريطاني وضد الزحف الشيوعي معا، وأن التيار القومي لم يكن يشكل خطراً على الأجندة الأميركية في المنطقة بالقدر ذاته الذي يشكله المد الأيديولوجي الشيوعي. وتبنى أعضاء ذلك الفريق وجهة النظر القائلة بأنه من الممكن مع التيار القومي العربي تماما مثلما تعاونت بريطانيا (من خلال لورانس العرب) مع أنصار القومية العربية في الثورة العربية الكبرى عام 1916.
وكان أنصار ذلك الفرق يرون أنه لابد من قطع الطريق أمام وصول الشيوعيين العرب إلى السلطة في دول الشرق الأوسط من خلال صناديق الاقتراع، وأن الطريقة الأمثل لفعل ذلك هي تدبير وتنفيذ ودعم انقلابات عسكرية تبدو وكأنها ثورات شعبية، بحيث تكبح جماح الدساتير الليبرالية وتقصي النخب الموالية لفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفياتي من المعادلة السياسية إلى الأبد.
على الجانب الآخر، كان الفريق الثاني يرى أن أنصار تيار القومية العربية والشيوعيين العرب هم في واقع الأمر فريق واحد، وبالتالي فإنه من الأفضل البحث عن بديل لهما ليكون حليفاً لأميركا في المنطقة، وأن أتباع تيار الإسلام السياسي هم البديل الأنسب لمواجهة الزحف الأيديولوجي الشيوعي الذي كان الشيوعيون العرب ينفذونه بنشاط.
ونشب احتقان سياسي حاد بسبب سعى كل فريق من جانبه إلى تسويق رؤيته ومحاولة فرضها على البيت الأبيض. وفي محاولة لتخفيف ذلك الاحتقان، قامت وكالة الاستخبارات الأميركية «سي آي إي» بتأسيس تنظيم وطني كانت واجهته سياسية لكن جوهره كان استخباراتيا، وهو التنظيم الذي أطلقت عليه اسم «أصدقاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط»، وهو التنظيم الذي تم اسناد مهمة قيادته إلى ضابط الاستخبارات كيرمت (كيم) روزفلت. وتألفت تلك المنظمة من ساسة ومثقفين أميركيين بهدف محاولة التأثير على الرأي العام والنخب السياسية الأميركية لإقناعها بأهمية التحالف مع التيارات العربية لاستخدامها كأدوات في مواجهة المد الشيوعي في منطقة الشرق الأوسط.
ووفقا لوثائق رسمية كشف النقاب عنها أخيرا، فإن ذلك التنظيم ظل يتلقى تمويلاً سرياً من الاستخبارات الأميركية طوال الفترة ما بين العامين 1951 و1967، ثم انتهى دوره وتمويله تدريجياً بعد أن تشكلت قناعة بأن مصلحة أميركا تكمن في تحالفها مع الطرف المنتصر في حرب يونيو 1967 (حرب النكسة).

روزفلت...
و«الضباط الأحرار»

بحلول العام 1951، انزلقت مصر في حال من الفوضى السياسية، وبدأت الولايات المتحدة تبحث سراً عن بديل للنظام الملكي المصري كي توصله إلى الحكم ويصبح حليفا له، شريطة ألا يكون منتمياً إلى التيار الشيوعي تحديداً.
في هذا الاتجاه، أوفدت واشنطن ضابط المخابرات كيرمت (كيم) روزفلت إلى القاهرة وفلسطين كي يلتقي ممثلين عن عدد من التنظيمات السرية والأحزاب السياسية، وذلك بهدف استطلاع الآراء وجس النبض.
وكتب روزفلت في مذكراته انه علم خلال جولته الاستخباراتية الاستطلاعية في المنطقة بأن هناك تنظيماً سريا في مصر يدعى «الضباط الأحرار»، وأنه تواصل مع أعضاء ذلك التنظيم سراً وعلم أن ما يجمعهم هو السخط على الملك فاروق بعد أن خذلتهم سياساته خلال فترة وجودهم في فلسطين ضمن قوات مصرية كان أرسلها الملك إلى هناك لمنع تنفيذ قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين. ووفقا لروزفلت، فإنه اتفق مع عدد من ضباط التنظيم على أن يقابلهم في قبرص، وهو ما حصل فعلياً.
وفي أعقاب تلك المقابلة التي تمت في قبرص أرسل روزفلت إلى رؤسائه في «سي آي إي» تقريرا ذكر فيه أن ذلك التنظيم على وشك أن يقوم بتحرك ضد الملك خلال الفترة المقبلة، وأنه في حال وقوع ذلك التحرك فلا ينبغي أن تقف الولايات المتحدة ضده، وذلك لأن – والكلام ما زال منسوبا إلى روزفلت – معظم «الضباط الأحرار» من أنصار القومية العربية وغير موالين للمحور السوفياتي، وأنهم سيقومون بتعطيل الدستور الليبرالي، وبالتالي فإنه من شأن ذلك أن يمنع وصول الشيوعيين العرب إلى الحكم عبر الانتخابات.

عبد الناصر... وواشنطن

يؤكد مؤرخون ومحللون استخباراتيون غربيون على أن جمال عبدالناصر لم يغلق الباب أمام التعاون والتنسيق السري مع واشنطن خلال فترة قيادته لتنظيم الضباط الأحرار، إلى درجة أنه سعى إلى التواصل مع الإدارة الأميركية (خلال فترة التي سبقت أحداث 23 يوليو 1952) ليطلب منها أن تتعهد بتقديم أسلحة متطورة ليقوم بإعادة تأهيل الجيش المصري بعد وصوله إلى الحكم، وأنه طلب إلزام إسرائيل بعدم الاقدام على أي أعمال استفزازية خلال المرحلة الانتقالية المتوقعة التي ستلي الاطاحة بالملك وعزله.
ولكن ما حصل بعد عزل الملك فاروق والغاء الملكية ووصول الضباط الأحرار إلى الحكم هو أن الفريق المناوئ لأفكار وتوجهات كيم روزفلت بدأ آنذاك في تنفيذ تحركات في واشنطن بهدف نسف العلاقات الناشئة بين واشنطن والنظام الحاكم الجديد في القاهرة، وخصوصاً في ظل تعدد زيارات روزفلت إلى القاهرة للتباحث مع الرئيس محمد نجيب ونائبه آنذاك جمال عبد الناصر.
وبعد قيام اسرائيل بتنفيذ سلسلة من الاغتيالات والمؤامرات التخريبية داخل مصر بإيعاز من الفريق المناوئ لكيم روزفلت، أدرك عبد الناصر أن روزفلت ليس واسع النفوذ في إدارة الرئيس دوايت ايزنهاور، وأن غريمه وزير الخارجية آنذاك جون فوستر دالاس قد نجح في فرض رؤيته، فقرر عبد الناصر أن يولي وجهه شرقاً إلى الاتحاد السوفياتي طلباً للدعم والسلاح، ولما عاقبت واشنطن ذلك التحول المصري بعرقلة تمويل تشييد السد العالي من خلال البنك الدولي، جاء رد عبد الناصر في شكل تأميم شركة قناة السويس.

العدوان الثلاثي... فرصة!

ويتفق محللون على أنه على الرغم من أن واشنطن كانت ترى ضرورة معاقبة وتأديب عبد الناصر، فإن واقعة العدوان الثلاثي على مصر جاءت لاحقا كهدية على طبق من ذهب للأميركيين وللسوفيات ولعبد الناصر على حد السواء، وذلك خلق فرصة لإقصاء بريطانيا وفرنسا نهائيا من حلبة النفوذ في المنطقة. فتحت وطأة إنذارات أميركية وسوفياتية، اضطرت بريطانيا وفرنسا إلى الانسحاب ليس فقط من مصر بل من بقية جيوب نفوذهما في منطقة الشرق الأوسط، ما ساعد روزفلت على تنفيذ انقلاب 1957 في الأردن والذي أدى إلى خروج القوات البريطانية من الأردن.
كما أن هناك اتفاقا على أن كيم روزفلت كان أيضا «مهندس» العملية التي تم بموجبها استغلال فرصة العدوان الثلاثي على مصر لإقصاء القوى الاستعمارية القديمة والجديدة من المعادلة الشرق أوسطية، وبالتالي إفساح المجال للولايات المتحدة كي تنفرد بمواجهة السوفيات في حلبة الصراع على بسط النفوذ في المنطقة.

نهاية رؤية
كيم روزفلت

على الرغم من تقاعد روزفلت عن العمل الاستخباراتي في أواخر الخمسينيات، فإن نظريته ظلت لاحقا تشكل جزءاً أساسياً من مفاعيل الصراع داخل المؤسسات الأميركية في عهد الرئيس جون إف كينيدي الذي كان مؤيداً لتلك الرؤية.
ولكن اغتيال كينيدي جاء ليفسح المجال للفريق المناوئ لنظرية روزفلت كي يحسم صراع التوجهات لصالحه داخل دوائر الحكم والقرار الأميركية، حيث نجح ذلك الفريق في فرض وجهة نظره القائلة إن تيار القومية العربية والتيار الشيوعي العربي ليسا سوى وجهين لعملة واحدة، وأنه ليس مناسباً مطلقا للتحالف مع تيار الاسلام السياسي في المنطقة، وأن الخيار والبديل الأمثل هو الاعتماد الكلي على إسرائيل كحليف وحيد لواشنطن في منطقة الشرق الأوسط.

كيرمت (كيم) روزفلت... في نقاط

• ولد بتاريخ 16 فبراير 1916، وتوفي بتاريخ 8 يونيو 2000.
• هو أحد أحفاد الرئيس الأميركي الأسبق ثيودور روزفلت.
• تلقى تعليمه في جامعة هارفارد ثم انضم بعد تخرجه إلى وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إي) في منتصف العام 1943 ليعمل كضابط خدمات استراتيجية.
• خلال فترة الحرب العالمية الثانية وبعدها، تولى الإشراف على تشكيل وقيادة تشكيلات استخباراتية ذات واجهات مدنية وسياسية بهدف توسيع نطاق نفوذ وهيمنة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط تحديداً. وتلك التشكيلات ما زال كثيرون لا يعلمون عنها سوى القليل حتى يومنا هذا.
• ينسب إليه الدور الأكبر في رسم معظم الخطط السرية التي نفذتها وكالة «سي آي إي» للإطاحة بحكام شرق أوسطيين، بمن فيهم الملك فاروق في مصر في العام 1952، ورئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق في العام 1953، والنظام الملكي الهاشمي في العراق في العام 1958.

تاريخ الصراع في المنطقة... يكرر نفسه

في سياق كتاب أسياد الصحراء (Lords of the Desert)، يلاحظ مؤلفه جيمز بار أن بعض المعضلات التي تواجه صانعي القرار في كل من أميركا وبريطانيا اليوم سبق أن واجهت أسلافهم أيضا على نحو مشابه إلى حد كبير بما يعزز نظرية أن التاريخ يكرر نفسه أحيانا.
وعلى سبيل المثال، يشير المؤلف إلى أن مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية ألين دوليس حذر في العام 1958 من أن إرسال قوات مارينز إلى لبنان لدعم «حليف مكروه» هناك بذريعة منع نشوب حرب أهلية قد يثير «موجة من المشاعر المعادية للغرب في العالم العربي، لكنه أقر في الوقت ذاته بأن عدم القيام بأي شيء كان من شأنه أن يُظهر أن الولايات المتحدة لم تكن مستعدة للوقوف إلى جانب حلفائها - وهو الفشل الذي استغلته موسكو آنذاك وقامت بنشر الفكر الشيوعي في منطقة شرق المتوسط».
عندما قام الرئيس الأميركي ايزنهاور في العام 1958 بنشر قوات مارينز في لبنان رغم معارضة لندن لذلك، وصف «راب باتلر»، وزير الداخلية البريطاني في ذلك الوقت، تلك الخطوة الأميركية بأنها «صفعة قوية لهيبتنا». وكان ذلك العام قد شهد فعلياً انهيار النظام الهاشمي في العراق، والذي كان الحليف البريطاني الأخير في شمال الشرق الأوسط. وهكذا فإن بريطانيا فقدت فلسطين ومصر والأردن.
ويشير الكتاب إلى أنه من المدهش أن ذلك السيناريو ذاته تكرر خلال السنوات القليلة الماضية في سورية، حيث استغلت موسكو التردد الغربي ونجحت في بسط نفوذها على سورية.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي