منذ أيام عدة كتب رئيس تحرير قناة «الدنيا» السورية الخاصة فؤاد شربجي رسالة مليئة بالتهكم والسخرية يعتذر فيها عن مقابلة أجرتها القناة مع العماد ميشال عون، رئيس كتلة «التغيير والإصلاح» في مجلس النواب اللبناني، قبيل زيارته إلى سورية. ويتضح من خلال الرسالة التهكمية الساخرة أن سبب رسالة شربجي التهكمية الانزعاج الذي أبداه التلفزيون السوري الحكومي من هذه المقابلة، إذ يعتقد الإعلاميون الرسميون أن مثل هذه اللقاءات هي من حق الإعلام الحكومي، وما أقدمت عليه محطة «الدنيا» كان نوعاً من القرصنة والقنص لأن الجنرال ميشال عون «ضيف الحكومة السورية وليس القطاع الخاص».
الخلاف بين التلفزيونين الرسمي والخاص على أحقية إجراء المقابلة، هو في الحقيقة خلاف لا يعكس اختلافاً في الرؤية لطبيعة الدور الإعلامي الدعائي المطلوب من المحطتين الفضائيتين، بل يعكس شيئاً من التنافسية، وهذا أمر طبيعي يبدو أن التلفزيون الرسمي لم يتعود عليه، طالما تعود على احتكار الفضاء السوري منذ نشأته قبل أكثر من خمسة عقود، وحتى أشهر قريبة حين بدأت أول قناة سورية «خاصة» في البث من داخل الأراضي السورية.
ومن خلال متابعتنا ومتابعة الجمهور لبرامج «الدنيا» القناة السورية الخاصة، لم يلاحظ أحد وجود خلافات جوهرية بقدر ما هي اختلافات في الشكل، إذ تسعى القناة إلى تقديم نفسها بحلة غير رتيبة وغير تقليدية، متكئة على رغبة في التحرر من القوالب الجامدة، واللغة الخشبية التي تميزت غالباً المحطات الإعلامية العربية الرسمية. أما غير ذلك فبالكاد يمكن رؤية تغييرات جوهرية، أو مضامين سياسية جديدة، أو لغة نقدية للواقع السياسي والاقتصادي القائم، على العكس تماماً، يمكن ملاحظة سباق وتنافس في النفاق والتزلف للنظام، وفي إعطاء صورة وردية للحالة القائمة، ويمكن ملاحظة كيف أن الإعلام الخاص يتسابق في ما بينه على انتقاد منتقدي ومعارضي السياسة السورية في أصقاع الأرض كلها، لا بل أن الإعلام الحكومي يبدو في هذا المضمار أكثر رصانة وترفعاً، إذ لا يتورع القائمون على الإعلام الخاص من استخدام لغة بذيئة بحق المعترضين كلهم، أو المختلفين مع النظام السوري، خصوصاً اللبنانيين منهم. إنه إعلام يحق القول فيه إنه «ملكي اكثر من الملك ذاته»!
من ناحية ثانية، فإن الخطوط الحمراء والمحظورات الموجودة في الإعلام الحكومي هي ذاتها مازالت قائمة في الإعلام الخاص، كتناول شؤون وأخبار السجناء السياسيين، أو نشاطات المعارضين السوريين، كما أنه لم يسجل أن استضاف هذا الإعلام سواء أكان تلفزيوناً، أم صحافة مكتوبة، أو مواقع الكترونية، أي شخصية معارضة للنظام السوري، من داخل سورية أو من خارجها.
على هذه الخلفية، نقصد عدم ملاحظة أي خلافات جوهرية بين الإعلام الرسمي والخاص، لم يصدق أحد خارج سورية بوجود إعلام خاص حقيقي، فما نشأ كله إلى اليوم وما سمح له أن يصدر، هو مجرد إعلام يدور في فلك السلطة السورية ومواقفها السياسية. وهذا ليس بغريب كون أصحاب الامتيازات الذين حصلوا على حق إصدار صحيفة أو موقع الكتروني أو قناة فضائية هم من المقربين من السلطة، مثل بلال توركماني، نجل وزير الدفاع السوري الذي حصل منذ نحو ستة أعوام على امتياز أول مجلة أسبوعية سياسية، منذ وصول حزب «البعث» إلى السلطة، هي مجلة «أبيض وأسود»، ووضاح عبد ربه، رئيس تحرير صحيفة «الوطن»، الممولة من قبل رجل الأعمال رامي مخلوف، وهو قريب الرئيس السوري بشار الأسد. أما محطة وقناة «الدنيا» الفضائية فقد أسسها رجال أعمال على علاقة وثيقة بالسلطات السورية هم سليمان معروف، وعماد غريواني، وعمر كركور، وأيمن جابر، ومحمد حمشو، ونبيل طعمة. في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن السلطات السورية لم تسمح قبل نحو عامين لقناة «شام» الفضائية من البث من داخل الأراضي السورية، ويبدو أن رجال الأعمال السوريين الذين كانوا يقفون وراء قناة «الدنيا» هم من وقف وراء هذا المنع لأسباب تعود إلى رغبتهم في احتكار السوق الدعائية السورية، وقد نجحوا في ذلك بسبب علاقاتهم المقربة مع السلطات السورية، كما ذكرنا، مما اضطر أصحاب قناة «شام» إلى الهجرة نحو القاهرة والبث من هناك، والقبول تالياً بالنفي الاختياري، وقد تكبد القائمون على المشروع خسائر مالية فادحة. جدير بالذكر أن مؤسس هذه القناة وصاحبها، وهو رجل أعمال سوري، كان قد حصل على موافقة شفهية من الرئيس الأسد خلال زيارة كان يقوم بها إلى الإمارات العربية المتحدة قبل بضعة أعوام. لكن اتضح لاحقاً أن قوة رجال الأعمال الذين يقفون وراء محطة «الدنيا» وعلاقاتهم الأخطبوطية الواسعة مع السلطات السورية هي من حالت دون انطلاقة محطة «شام»، وهذا بدوره عكس غياب سلطة القانون والقضاء، والشفافية في دولة مثل سورية.
أما في ما يخص المواقع الإلكترونية المسموح لها العمل اليوم، فجميعها على علاقة وثيقة بالاستخبارات السورية، وهي موقع «شام برس» للصحافي علي جمالو، وموقع «سيريا نيوز» لنضال معلوف، وموقعا «داماس بوست» و«عكس السير». ويتضح من خلال مضامين هذه المواقع الإكترونية أنها مكلفة جميعاً بتناول قوى الرابع عشر من آذار في لبنان ومعارضي السياسة السورية كلهم، وهي لا تتورع عن استخدام لغة بذيئة في حقهم.
من ناحية أخرى، شهدت الساحة السورية في الأعوام الخمسة المنصرمة صدور صحف ودوريات أسبوعية حزبية عدة، أو نصف شهرية ناطقة باسم الأحزاب المنضوية في الجبهة الوطنية التقدمية، لكنها جميعاً تعتمد في تمويلها على الحكومة، وتحررها كوادر حزبية ليست ممتهنة للعمل الصحافي، وهي لم تستطع أن تجاري حتى الإعلام الرسمي الحكومي بسلبياته وجموده كله، لذلك لم يكن مستغرباً ألا تترك أي أثر على الجمهور السوري، لأن غالبية من المواطنين لم يسمعوا حتى بأسمائها.
أخيراً، مازالت السلطات تضيق على مراسلي وسائل الإعلام الخارجية، خصوصاً منهم أولئك الذين يرفضون التحول إلى أبواق لخدمة السياسة الرسمية. لكن هذه السلطات نجحت في تطويع الكثيرين منهم من خلال أساليب عدة، سواء عبر التهديد بسحب البطاقة، أو من خلال كثرة الاستدعاءات إلى المراكز الامنية والتهديد المتعدد الأشكال.
ما سبق عرضه يثبت أن القائمين على العملية الإعلامية مازالوا بعيدين البعد كله عن فهم إدارة العمل الصحافي، ولهذه الأسباب وبسبب هذه الأوضاع ستبقى سمعة سورية ونظامها في الخارج سمعة سيئة لا ينافسها فيها سوى ثلاث أو أربع دول هي كوريا الشمالية، وليبيا، وكوبا، وزيمبابوي، ومينامار.
زين الشامي
كاتب سوري