لم تكن اعتيادية، تلك الفقرات التي ذكرها الشيخ محمد بن راشد في كتابه «قصتي» عن الكويت ومواقفها، وقد جاءت هذه الفقرات من شخصية غير اعتيادية أيضاً، ومن دون الحاجة إلى إعادة هذه الفقرات، ولا لشكر الشيخ محمد بن راشد لعدم حاجته لذلك، إلا أن في هذه الفقرات رسالة مهمة لعموم جيل الشباب في الكويت، الذي ربما لا يعرف مدى تلك «القوة الناعمة» التي كانت تتمتع بها بلادنا في السابق، والتي يجب على الدولة بعد العمل على استعادة هذه المكانة أن تؤرخ هذه الأعمال لتبقى دروساً لأجيال ستأتي.
في ديباجة قانون إنشاء الصندوق الكويتي للتنمية العربية عام 1961 وقبل تعديله في الستينات كانت هناك عبارة ذكرت في مقدمة الديباجة: «رغم أننا على موجة التغيير، إلا أننا لن ننسى أصدقاءنا المحتاجين»، هكذا كان الفكر الكويتي من دون أطماع أو رغبة في السيطرة على أحد.
ذكرت قبل سنوات عندما زارنا بعض الأخوة اليمنيين بمناسبة المفاوضات التي كانت تجري وقتها، وبحكم صداقتي لبعضهم ومرافقتي لهم في بعض الزيارات رأيت عجباً عجاباً، كانوا حريصين على زيارة أماكن عدة في الكويت حرصهم على العيش وتنفس الهواء! زاروا مقر مجلة العربي التي تصدر عن وزارة الإعلام، وكانت هذه الزيارة بنوع من «التقديس» للمجلة ومقرها!
أخذتهم معي إلى المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وعندما دخلنا مكتبته وشاهدوا أعداد مجلة عالم الفكر التي تصدر عنه، وكأنهم شاهدوا كنزاً من الألماس يحتضنون أعداد هذه المجلة كما يحتضن الحبيب حبيبته... يسألون المشرف على المكتبة عن بعض البحوث المنشورة ليخرج لهم أعدادها، وأنا أرى الفرحة والسرور ترتسم على وجوههم وكأن أحدهم بُشِّر بالفوز بالملايين! عندما دخلنا مكتبة مركز البحوث والدراسات الكويتية وأهدانا القائمون على المركز أعداد «رسالة الكويت» التي تصدر عنه، كان الأصدقاء اليمنيون يتصفحون هذه الرسالة بشغف لم أرَ مثله أبداً.
هذه المنابر الثقافية الكويتية هي أشبه بالمؤسسات التعليمية ذات الأثر الكبير على شريحة كبيرة جداً من أبناء الوطن العربي، ارتبطوا بها ارتباط الطالب بجامعته وأساتذته ومعلميه، لذا كانت زيارة هؤلاء الأصدقاء وكأنهم يزورون فصولهم الدراسية التي نهلوا من علوم أساتذتهم داخلها! مرة أجريت لقاءً مع قداسة البابا تواضروس الثاني، وعندما سألته في نهاية الحوار عن حياته الشخصية، ذكر لي أنه من الأشخاص الذين تربوا على مجلة «العربي» الكويتية! ومثله ذكرت لي السيدة تهاني الجبالي عضو المحكمة الدستورية المصرية سابقاً عندما حاورتها!
هذه المنابع الثقافية الفكرية، التي كان مَعينها يجري من الكويت بجهود كويتية عربية تواجه الآن تحديات عدة أهمها: أن جيلاً كاملاً أو أجيالاً من شباب الكويت لعله لا يعرف شيئاً عنها، وقد لا يكون سمع بها حتى! والمؤكد أن جيلاً قادماً سيأتي لا يعرف أي شيء عن هذه الإنجازات الكويتية! والسؤال: كيف للجهات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني أن تعيد استذكار هذه المعالم الثقافية كي لا ينساها شبابنا؟ أما التحدي الآخر ولعله لا يقل أهمية عن سابقه، ففي ظل هذا الانفجار الإلكتروني كيف لهذه المجلات والإنجازات أن تحافظ على مكانتها، إن لم تقتحم هذا الفضاء؟ ثم هل اقتحام فضاء الاتصالات والمواقع سيؤثر على مكانتها ورزانتها؟
هذا الإرث الثقافي والعلمي والعملي وسابق المساعدة في أعمال ومشاريع التنمية، والتي ما زالت لدولة الكويت ومؤسساتها حين رعت مثل هذه الإصدارات وجمعت حولها خيرة الكتاب العرب، وأثرت أيضاً في شريحة كبيرة من المتلقي العربي لا ينبغي له أن ينسى، ولا أن يترك ولا أن تلتفت عنه الأنظار والعيون، مسؤوليتنا جميعاً، مؤسسات حكومية وأهلية وأفراداً، أن نبحث عن سبيل لمواكبة عصر الانفجار التكنولوجي من دون أن يؤثر علينا وعلى مثل هذه الإبداعات كي لا تنسى، إنها منارة ثقافية أرضها دولة الكويت ووصل نورها إلى كل الوطن العربي تأثيراً وتأثراً، ولا يجوز أن نتنازل عن شيء من نورها أو نفرط فيه.
تاريخ وقوفنا مع الغير... قوتنا الناعمة التي كانت محل تأثير... رعايتنا لكثير من جوانب الثقافة يوم كنا في البداية... نجاحاتنا... كل هذا محل تحدٍ ونحن نقارن حالنا اليوم، فشل في الأداء يكاد ينسف كل ما سبق، كيف نفشل الآن ونحن أساتذة النجاح سابقا؟ هذا هو التحدي الأكبر، ولعله الرسالة التي يجب أن نفهمها من كل ما سبق!
lawyermodalsbti @