أماكن / في رحاب مولانا «2 من 2»

تصغير
تكبير
|جمال الغيطاني| ... كان أبي في أوقات فراغه وراحته يحكي لنا عن الأنبياء، طوفان نوح، وسيدنا ابراهيم وعن ابنه اسماعيل الذي أطلق اسمه على أخي، وكنت أسأله في صغري، لماذا لم يطلق عليّ اسم أحد الأنبياء كما أطلق على أخي، فكان يداعبني قائلا:
«ألا تسمع الناس تقول... يا جمال النبي».
والحقيقة أنه كان معجبا بسيرة السيد جمال الدين الأفغاني، المفكر الاسلامي الثوري الذي جاء الى مصر في القرن التاسع عشر ومات في الآستانة مسموما، وأطلق اسمه عليّ، كان يحفظ سورة أهل الكهف عن ظهر قلب، ويحكيها لنا في صيغ مختلفة، وكذلك سورة سيدنا يوسف، ولقاء سيدنا موسى بعبد أوتي العلم اللدني... ويعتقد المفسرون أنه سيدنا الخضر الذي شرب من عين الحياة، فهو لا يموت أبدا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، كان يحكي لنا عن مشاهد القيامة كما وردت في القرآن الكريم، وكنت أسأله عن يوم الحشر، وهل سنفترق فيه عن بعضنا، فيقول لي:
«يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» سورة عبس.
وأبكي حزنا لأنني لن أتعرف على أمي وأبي وأخوتي، ولأننا سنفترق. كان الموت يلوح قصيا، نائيا، ولم أكن أدري أنه أقرب الينا من حبل الوريد... في يوم العيد، نرجع الى البيت بعد اكتمال البهجة برؤية موكب الزعيم جمال عبدالناصر الذي كان يحرص على رؤية الناس من عربة مكشوفة، وبعد افطارنا يحمل الوالد حقيبة من ورق، فيها كعك، وفواكه، وما تيسر لتوزيعها على أرواح الموتى.
أولا شقيقاي «خلف وكمال» اللذان رحلا صغيرين قبلي، وثانيا على أرواح من يحب.وزيارة الموتى وتوزيع الهدايا من أجلهم عادة مصرية فرعونية قديمة، وتمتزج زيارات الموتى بالمناسبات الدينية، العيدين، ونصف شعبان، والسابع والعشرين من رجب، وقد دارت الأيام دورتها وصرت أسعى الى مرقد الوالدين - رحمهما الله - تماما كما كان يفعل والدي، أما ضريح الحسين ومرقده، فهو المكان الوحيد في العالم الذي يصالحني على نفسي حتى الآن، اليه أسعى عند الضيق.
كان الوالد يحفظ آيات كريمة من القرآن الكريم، يتلوها بمفردها، وأستعيدها الآن فتبدو لي كمواد قانون كوني ينظم حياته، أحيانا ينطقها أثناء صمته، وأحيانا يتلوها ليدلل بها على صحة موقف أو قول، كانت تعاليم الدين جزءا من الحياة، من السلوك الانساني، ليست بمعزل:
* «أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا» سورة المائدة.
* «ولا تقتلوا النفس التي حرم الله» سورة الأنعام.
لقد مرّ والدي بظروف عسرة جدا في حياته، خاصة في كفاحه البطولي من أجل تعليمنا، من أجل أن يجنبنا الصعاب التي رآها في حياته، وكثيرا ما ورد على سمعي... «والله لولا خوفي من الموت كافرا لانتحرت».
أن يقتل المسلم نفسه، أو يقتل انسانا آخر، فهذا كفر بعينه، حرم الله في القرآن الكريم تحريما صريحا قتل النفس الحية من دون ذنب، كما حرم وأد البنات الذي كان منتشرا في الجاهلية قبل الاسلام.
كان الوالد يذكر الله كثيرا، بعد تناولنا الطعام لابد أن نقول «الحمد لله» اذا سافر أحدنا يقول له «ربنا معاك»، واذا خرج لقضاء حاجة يطلب من أمي أن تدعو له فتقول «ربنا يسهل لك...» أحيانا أثناء صمته يصيح «يا رب سترك ورضاك»، أو «يا غفور يا كريم يا رب».
عندما بلغت السابعة بدأ يتابع أدائي الصلاة، ويؤمنا ليصلي بنا جماعة، أمي وشقيقي اسماعيل وشقيقي علي وشقيقتي نوال، وعندما بلغت التاسعة بدأت أصوم رمضان، وكان ذلك علامة على خطوي نحو طور الرجال، كنت أغالب العطش والجوع.
ويكتمل شملنا حول الطعام بعد أذان المغرب، حتى بعد تقدمي في العمر، ومروري بظروف أمرني فيها الطبيب أن أفطر في رمضان بسبب أدوية سيولة الدم، لا يمكنني أبدا تناول الطعام وقت الغداء، أنتظر أذان المغرب، وخلال النهار أتناول الدواء، وبعض الماء وعندي احساس بالذنب، لم يكن ضريح ومسجد مولانا الحسين مكانا للصلاة فقط، انما كان ملاذا أيضا وملتقى فيه يتساوى الناس.
فالثري الى جوار الفقير، الناس سواسية كأسنان المشط طبقا لما يأمر به الاسلام، ولكم قضى والدي من حاجات عبر جيرانه في الصلاة الذين كان بعضهم في مناصب مرموقة بالحكومة، أو أطباء مشهورين، كلهم يجيئون الى الحسين، التماسا للبركة، وتعلقا بالرمز، وهذا ما يميز الاسلام في مصر، فثمة أقطار اسلامية تسود فيها مذاهب تحرم التعلق بالأضرحة، أو زيارة الراحلين.
مسجد الحسين، كانت تتردد فيه أصوات مشاهير القراء، ولقد استمعت الى أجمل الأصوات، التي تجسد مدرسة تلاوة القرآن المصرية، قارئ واحد شهير لم أستمع اليه لأنه رحل عن دنيانا وعمري خمس سنوات، انه الشيخ محمد رفعت الذي تبث الاذاعة تسجيلاته النادرة... كان الوالد يستيقظ مبكرا في بعض أيام الجمع، ليستطيع حجز مكان في مسجد فاضل باشا بالجماميز الذي كان يقرأ فيه الشيخ محمد رفعت.
وكان والدي اذ يصغي الى تسجيلاته كان يقول لي ان ما نسمعه مجرد شبه بعيد جدا بصوت الشيخ صاحب الصوت العميق، العذب، للأسف بدأت مدرسة التلاوة المصرية تختفي من الاذاعة والتلفزيون.
لكن ثمة قراء لايزالون يتلون القرآن الكريم في الريف المصري طبقا لتقاليد المدرسة المصرية في التلاوة، كان والدي - رحمه الله - يحرص على مجاملة جيراننا الأقباط، في القرية أو الجمالية، وأذكر زياراته المنتظمة لتاجر غلال من بلدنا اسمه «فخري غورس» ومن زياراته تلك عرفت أعياد الأقباط، مثل عيد القيامة، وسبت النور، وعيد الغطاس، وفي أثناء قضاء اجازاتنا بالقرية كان يصافح القس والرهبان الأقباط بمودة واحترام، ويعلمني أن أنادي كلا منهم «يا أبونا»، كان يردد دائما:
«الدين لله والوطن للجميع...»
ولعلها عبارة تمت الى سياسي مصري، قبطي شهير اسمه مكرم عبيد، كان من رجال ثورة 1919 التي شبت ضد الاحتلال الانكليزي، للأسف... لم تختل العلاقة بين المسلمين والأقباط الا مع صعود موجات التطرف منذ السبعينات في القرن الماضي، اختلت بتأثير ظروف اجتماعية واقتصادية نفثت عن أدوارها من خلال تلك الفتن، ولكن مصر بمضمونها الروحي القديم يمكنها تجاوز شتى المحن.
أحيانا أغيب عن زيارة مولانا الحسين بسبب سفر أو انقطاع قسري، عندئذ أسعى الى ضريحه، تماما كما كان يسعى أبي، بنفس ايقاع خطواته، ونفس اتجاه نظراته، أجلس في فراغ المسجد، مسترجعا حضور أبي الذي غاب، مستأنسا بذكراه، وبالمعاني التي يجسدها مولانا الشهيد، نفس معنى التضحية والشهادة الذي كان يجسده «أوزير» بالنسبة للمصري القديم.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي