أن تكون مدير مدرسة هو غالباً وظيفة مهمتها صب ماء البحر كله في إناء!
في مقامٍ ما من مقامات حياتي تسلّمت مدرسة متوسطة بلا تمديدات مياه، وعندما تجولت في مرافقها اكتشفت أنها مدرسة للبنات بلا ملاعب كرة وبركن خاص للاقتصاد المنزلي، ولكن لسبب ما أصبحت متوسطة للبنين.
بالتأكيد كنا نعترض ونرسل الكتب وراء الكتب للوزارة، لكي نبلغها عن حاجتنا لتمديدات المياه وعن حاجتنا للملاعب وتجهيز المختبرات... ولكننا في الوقت نفسه كنا نسير في اتجاه آخر، فرغم ندرة المياه إلا أننا قررنا أن نعترض على ذلك بالتنمية والنماء.
في الواقع لقد كنت أعتقد أن ما يجب التركيز عليهما هما... الطالب وأفكاره فقط، أما الديكور والبنية التحتية - فرغم أهميتهما كبيئة ملبية ودافعة ومحفزة للطلاب وكواجهة لمدير المدرسة - إلا أني كنت أعتقد أن الطالب وأفكاره هما الركيزتان الأساسيتان اللتان تجعلان أي مدير مدرسة يخرج من بيته صباحا، وتجعلان أي مدرسة تتراكم... وتتراكم حتى تصل إلى مساحة آمنة وداعمة من صنع الطلاب أنفسهم.
ولم يخسر الرهان يوماً.
زرعنا نخلاً أمام المدرسة وأمام أسوارها، وكانت كل نخلة باسم ومشاركة ومساهمة صف دراسي من صفوف المدرسة... هل لك أن تتخيل أن تعترض على نقص المياه الحكومية بالزراعة لأهالي المنطقة... يا له من خيال!
انشأنا مجاميع طلابية للعمل التطوعي، استطاعت أن تعمل وتؤثر اجتماعيا، حتى قرر الوزير أن يزور المدرسة زيارة مفاجئة ليتعرف على المجموعة التي سمع عنها في الدواوين.
حصلنا على وصف «المدرسة المتميزة»، وكان المجتمع المحلي المحيط بالمدرسة، يعتقد أننا من المدارس النموذجية، وكانت رغبة الأهالي الأولى في المناطق المحيطة بنا أن يكون أبناؤهم معنا.
حصلنا على جوائز من كل حدب وصوب، وتفجرت المدرسة ينابيع عطاء من المعلمين ورؤساء الأقسام والطلاب ومساهمات من أولياء الأمور، وتفجر المسرح إبداعاً، وكان طابور الصباح منصة فنية أكثر منه صوت اذاعي «جوبيلزي» من أيام الحرب العالمية.
بالتأكيد كان هناك أخطاء... ولكنها لم تكن قاتلة للإمكانية التي كنا نسعى لها.
كنت شديداً في تطبيق القانون... هكذا قالوا عني.
كان مكتبي مفتوحاً للجميع... هكذا قالوا عني أيضاً.
مشكلة المدير أنه يسمح لأي أحد يدخل عليه... البعض اعتبرها عيباً.
في الواقع لم أكن أعمل وحدي... فسبحان من سخّر معي أيضاً مجموعة من رؤساء الأقسام الذين أصبحوا الآن مديري مدارس ناجحين.
أنا لا أتحدث عن نفسي... فهناك من يكتب عني، ولا أدري هل أنا هذا الذي يكتب عنه، أم أنني هو... الحكم عند الله.
واعذره لإنه المعلم الأكثر جنونا على الإطلاق... والذي شهدت تحولاته وتقلباته من مقام إلى مقام، وفي كل مرة كنت أدعمه... حتى عندما قال لي:
- كما تقيمنا... نريد أن نقيمك، اسمح لي بعمل استبيان يقيس درجة أدائك، يشارك فيه الجميع.
قلت له يومها:
- يا له من أفق!
إذا قال لي طالب من الطلاب «لا أحبك» لا أقول له «احترم نفسك»... ولكني كنت أقول، يا لها من رسالة!
كنت أقف على باب المدرسة لكي أسلم على الطلاب طالباً طالباً أثناء دخولهم المدرسة، كان ذلك قبل ظهور «الانستغرام»... وعندما تقاعدت لم يخطر ببالي يوما أن أقول:
- يا لها من خسارة !
ولكني أقول:
- يا له من مقام !
هل حققنا رؤيتنا التي كنا نسعى إليها، أن يخرج من المدرسة طالب واحد على الأقل... يغير الأمة؟
هل قدمت نموذجاً جيداً للمتعلمين والمعلمين وأولياء أمورهم؟
هل الطلاب الذين تخرجوا وأصبحوا موظفين أو غير ذلك، قدموا نموذجاً مشرفاً في النزاهة والاستقامة؟
كيف يمكن أن نقيس الأثر التعليمي، كيف يمكن أن نشاهد أعمالنا ونكون شهوداً عليها؟
عموماً... إن كاتبكم يكتب، ولكن الذاكرة عندي «...» وما بين المساحات الفارغة أقول:
- والله عليم شكور.
التوقيع:
بوعبدالكريم سعد التتان.
قصة قصيرة:
- ما هو تصنيف هذا المقال في الأدب؟ هل يصنف ضمن السير الذاتية، التي تكتبنا من خلال الآخرين.
- إنه ليس من الأدب... ولكنه تقرير لقياس الأثر التعليمي والاجتماعي مكتوب بلغة أدبية.
@moh1alatwan