... ظننت أن بعض الظلم سيرفع عني ويزول بعد الانتهاء من رسالة الدكتوراه عام 94 والتعيين في الجامعة كأستاذة فلسفة الأخلاق في قسم الفلسفة. لكنني ذهلت لكم القيود التي تمارس ضدنا كهيئة تدريس. فمقرر كل فصل يجب أن يمر على الإدارة للموافقة عليه، ويمنع الخروج عنه بأي فكرة أو نص. أي أننا نلقن ونكرر كالببغاء المكتوب في توصيف المقرر من دون الحياد عنه. وإن سافرت للقاء تلفزيوني في العطل، تنتظر الإدارة تقريراً كاملاً مفصلاً عما قلته في اللقاء.
شعرت كأننا مساجين رغم أننا حملة دكتوراه وأساتذة جامعيين. أما الأدهى من هذا، فهو وجود بعض جواسيس من طلبة مغروسين ومزروعين في المحاضرات. فإن تكلمنا عن سارتر أو داروين أو غيره، خرج الطالب - الجاسوس - للتبليغ عما سمعه في المحاضرة للإدارة التي بدورها تستدعينا للتحقيق معنا، ولم يتوقف الأمر حتى استعنت بمحام خاص للمطالبة بحقوقي كأستاذ جامعي، كما هو منصوص عليها بميثاق الجامعة والدستور.
صدقت حينها أن الحرية الفكرية وهم في الجامعة وخارجها. فهناك تخوف كبير وتوجس من اجتهاد الأستاذ وخطة لعزله في حيز إلقاء المحاضرات وتصحيح أوراق الامتحانات والبحوث المعتمدة من قبلهم فقط. أي القبض على كل خلية إبداع في عقله. وهنا كانت المفارقة، فقد تعلمت في بريطانيا كطالبة دكتوراه على طرح الأسئلة من أجل ذاتها، وتدربت على مدى خمس سنوات على عمق النبش في كل فكر بال قديم، ولذة استخدام المناهج العلمية للبحث عن الحقيقة؛ منتهى جوهر الإنسان والحكمة من وجوده.
لكن حين عدت لتطبيق كل هذه الكنوز في عملي بالجامعة. وجدت أننا مطالبون بالعكس تماماً. التلقين والتحفيظ للطلبة والالتزام بالمقرر وعدم الاجتهاد والإبداع. كما أن لجان درجة الأستاذية تمر بقائمة طويلة من الضوابط والقيود بدءا بنوع البحث. موضوعه. عنوانه. كيفية الطرح. سجن مفتوح على مصراعيه تحت مسمى جامعة.
لذلك نحن نحتاج ثورة علمية تعليمية شاملة من الجامعات ودور النشر لمنح الباحث حرية أكبر ونزع القيود عن عقله، ثم تخصيص ميزانية واهتمام لنشر الأبحاث والدراسات. في مختلف المجالات خصوصاً التي تكتبها المرأة، باعتبارها الباب العالي للفاعلية وكسب الثقة:
1 - لفت النظر لأهمية نشر وتوزيع وتداول كتب الفكر والبحوث في الوطن العربي، بعد تراجع الاهتمام بها مقابل الرواية والشعر وغيرها من صنوف الأدب، وفك القيود عن كتب الفكر أولا. ومنحها أجنحة عملاقة لتطير عاليا وتصل للقارئ المتعطش لها. وفك كل قيد وضع حول فكر باحث أو أستاذ. اضطر بسبب تراكم العراقيل والتهديد الوظيفي لحبس فكره وكتبه بالادراج.
2 - تمكين القارئ من الاطلاع على كتب الفقه الصحيحة. ووضع أدوات البحث العلمي والموضوعات الحيوية المطلوب طرحها ومناقشتها في زمن يموج بالمتغيرات المعاصرة، والتحديات الأخلاقية التي من شأنها هز كيان الفرد وجعله يشك بكل ما حوله، وكل ما نشأ وتربى عليه.
أضف إلى ذلك فقدان مصداقية الإعلام العربي، بسبب الفساد من جهة وحماية المصالح من جهة أخرى، أصبحت هناك حاجة ماسة لتوضيح ما خفي على القارئ من أمور ومستجدات في كافة مجالات الحياة. خصوصاً مع تزايد الصراعات والحروب والأطماع، وظهور مصطلحات جديدة يحتاج فهمها بالشكل الصحيح ليقف على دوره الأفضل والأنسب في الوطن والحياة. كما أن تشير كتب الفكر بكل ما تحتويه من كنوز إيجابية وتحليل واضاءات ستقرب وجهات النظر وتزيل الاختلافات التي تحولت لخلافات، ما سيؤدي تدريجيا لإصلاح الفرد واختفاء كل آفة لحقت بالمجتمعات العربية مثل التعصب والعنصرية والطائفية وغيرها.
3 - إعادة الثقة للفكر العربي نظرياً وكتابياً ولاحقاً عملياً وتطبيقياً. فهناك الكثير من العقول الباحثة القادرة على كسر حاجز الخوف وطرق أبواب العلوم بأنواعها، ومحو أمية القارئ العربي الفكرية والبحثية. ففي السنوات العشرين الماضية، نجد الهوس بكتب الفكر الغربي. وهجمة على الترجمات. وهو أمر جيد. فقط... وفقط حين يوازيه اهتمام بالفكر العربي. وهو موجود ومتاح. لكن نعاني عزوف دور النشر من الثقة للاطلاع والاهتمام به.
4 - وهو ما أتمناه شخصياً، تخصيص حيز للمرأة الباحثة. بعرض فكرها وإتاحة الفرصة لها للتعبير عن قدراتها كعقل. وهو أمر يحتاج ناشرا شجاعا لجلب المرأة من الصف الخلفي للأمام وتسليط الضوء على عقلها. بعد أن باع واشترى فيها الإعلام والتاريخ والنشر كجسد و وجه ومظهر وسلطة جنسية تساق كالبهيمة وتستخدم كالوعاء. آن أوان النظر إليها كعقل. بمنحها الثقة لإثبات نفسها. وهي قادرة.
يقول جبران خليل جبران:
«لا تجالس أنصاف العشاق، ولا تصادق أنصاف الأصدقاء، لا تقرأ لأنصاف الموهوبين، لا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت، لا تختر نصف حل، ولا تقف في منتصف الحقيقة، لا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل، إذا صمتّ... فاصمت حتى النهاية، وإذا تكلمت... فتكلّم حتى النهاية، لا تصمت كي تتكلم، و لا تتكلم كي تصمت...إذا رضيت فعبّر عن رضاك، لا تصطنع نصف رضا، وإذا رفضت... فعبّر عن رفضك، لأن نصف الرفض قبول... النصف هو حياة لم تعشها، وهو كلمة لم تقلها، وهو ابتسامة أجّلتها، وهو حب لم تصل إليه، وهو صداقة لم تعرفها... النصف هو ما يجعلك غريباً عن أقرب الناس إليك، وهو ما يجعل أقرب الناس إليك غرباء عنك... النصف هو أن تصل و ألاتصل، أن تعمل و ألا تعمل، أن تغيب وأن تحضر... النصف هو أنت، عندما لا تكون أنت... لأنك لم تعرف من أنت، النصف هو ألا تعرف من أنت... ومن تحب ليس نصفك الآخر... هو أنت في مكان آخر في الوقت نفسه.
نصف شربة لن تروي ظمأك، ونصف وجبة لن تشبع جوعك، نصف طريق لن يوصلك إلى أي مكان، ونصف فكرة لن تعطي لك نتيجة، النصف هو لحظة عجزك و أنت لست بعاجز... لأنك لست نصف إنسان.
أنت إنسان وجدت كي تعيش الحياة، وليس كي تعيش نصف حياة. ليست حقيقة الإنسان بما يظهره لك... بل بما لا يستطيع أن يظهره، لذلك... إذا أردت أن تعرفه فلا تصغي إلى ما يقوله... بل إلى ما لا يقوله»!
وأقول أنت إنسان وجدت كي تعيش كل الحياة لا بعضها أو نصفها. أن تعيشها بكلك. لا ببعضك أو نصفك.