ضفة البحر

تصغير
تكبير
| بقلم: عبدالله بن سليمان العتيق |
في محادثة الجمادات انس قل وجوده عند الاحياء، لفيض المشاعر ببوح لما تريد الا يسمعه البشر، غير ما يكون من انشراح للصدر وارتياح للنفس.
كنت في ليلة بعيدا عن هم الحياة وشغلها تبوأت من صخور البحر الجداوي مقعدا، والليل زمنا، وتصادم الامواج ببعضها نغما، ورشق البحر عطرا، اتأمل البحر بسعة لا اكاد ادرك نهايتها، وهدوء في ذلك الصوت، وعلى ما في الموج من اضطراب الا انني ألمح سكونه، قلبت النظر في هذه الحال التي عشتها وعاشرتها فكنت في تبادل جميل لحديث شيق وحديث البحر لا حرج يعتريه، ولا سوء يشوبه.
تذكرت وانا على (ضفة البحر) راقما (ضفة البحر) بيتين قيلا من شاعر لم يكن محبا لركوب البحر، وان كان الاتفاق جاريا في حالينا:
لا اركب البحر ان اخشى علي منه المعاطب
طين انا وهو ماء والطين في الماء ذائب
فنقلني الخيال، والخيال بحر، من (ضفة) بحر الحس إلى (ضفة) بحر المعنى، فكم من بحر نغوصه لا ندرك قعره، واعجز الغواصين من يقف على شاطئه، والشاطئان متباينان والمدرك من البحر صيدا فعلى ما يوافق هواه وذوقه والبحر يعطي ما طلب فقدر الطالب بقدر مطلوبه.
بحور الدنيا التي يخوضها الإنسان لا حصر لها، فكل حدث بحر، وكل مارة بحر، وكل شيء بحر، وماء البحر معان واسرار، ملوحة البحر جمال وحسن، وكمال في الهيئة الظاهرة.
بحر المعرفة متلاطم الامواج واسع المساحة، بعيد القعر، مليء بالدر، وكذلك بحر الفكر لا ينتهي عند حد، وليس له غاية زمنية يقف عندها، يسير بأمواجه حيث جرفته رياح الفضاء ومجاديف قواربه اما توجه المسير واما تضيعه، وبحر التأمل لا ساحل له، حيث لا حدود تحوطه، فيغرق المرء فيه فيكون طينا، وان غرق اتى بشيء لا يعرفه الا من ذاقه، وكل بحر معنوي يعتبر له البحر الحسي.
على صخرة صماء في (ضفة البحر) جلوس الناظر في حال البحر، فلا معرفة للبحر إلا بوقوف على ما يطل عليه، تلك الصخرة تجعل الانسان في نقلة من عالم الحس إلى عالم الشعور في تأملات العقل لرسائل البحر، وهي ركيزة الاعتماد حتى يرتفع بها الإنسان ويعتلي، فتكون قدمه على موطئ راسخ، فثبات الاصل ضمان لثمر الفرع.
«الشاطئ» هو البداية الأساسية، والواجهة الرئيسية للبحر، لأنه نقطة الانطلاق، وهو بر لكل خائض، والبحر الذي لا شاطئ له مهلكة، وتارك الشاطئ إلى مواطن العمق خاطب لحتفه، ومتعة البحر في شواطئه، ولقاءات اهل الكمال تبدأ بالشواطئ.
«الموج» لا يقف البحر عن ضرب امواجه ببعضها وهي حلية البحر، وعقد جماله، وهي ضربة قاتلة، وصفعة موجعة، فما كل موجة بهجة مهجة، ففي تلاطم أمواج البحر رسائل محفوظة، وفي قطرات مائه موجات، ولا يعرفها إلا من مارس، فلمن لا يعرف رسالة الامواج ان يقف دون المغامرة.
الغرق في البحر لا يحدث إلا لمن لا يتقن مهارة الغوص، والغائص الماهر يخرج اللؤلؤ من مكامنه، ولا يكون الغوص إلا في الاعماق، والوصول إلى الاعماق لن يتأتى إلا بعد مجاوزة البداية، والبداية للبحر من شاطئه، وقاعدة الشاطئ ضفته، فمهارة التعمق من مهارة البدء، وهكذا كل بحر.
لم تدعني الامواج التي ارسلتها الرياح متلاطمة اطيل مكثا في مسامرة البحر، ولكأني بها توحي برسالة ان غادر (ضفة البحر) فليست قرارا لأحد فيتبوأها، وانما هي نقطة بدء، وبداية انطلاق، والاعتبار بحقائق التأملات لا بعلائقها.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي