نفسياسي

رقابة... وشيزوفرينيا!

تصغير
تكبير

السكيزوفرينيا - أو الفصام أو الشيزوفرينيا باللفظ المعرّب - هو اضطراب يصيب ما يقارب الواحد في المئة من السكان في أي مجتمع، وهو اضطراب عادل نوعاً ما. فلا تمايز في المصابين فيه من حيث العمر أو الجنس أو الحالة الاقتصادية أو الاجتماعية أو التعليمية، ويتميز بوجود مجموعة من الأعراض أهمها الهلاوس السمعية أو البصرية، بالإضافة إلى وجود أفكار نسميها في الطب النفسي بالأفكار الضلالية - delusions - وهي عبارة عن إيمان مطلق وثابت للمريض بأشياء لا وجود لها على أرض الواقع، كأن يكون مراقباً من جهة ما أو أن يكون ضحية لمؤامرة تحاك ضده من قبل مجموعة من الأشخاص، ناهيك عن أعراض أخرى كالتدهور المستمر والبطيء في القدرات العقلية، والعزلة الاجتماعية، وفقدان الدافع للعمل أو القيام بأي مهمة ذات قيمة أو فائدة. ولا علاقة للـ «شيزوفرينيا» بالفهم الخاطئ والمنتشر في المجتمع بأن هذا المرض يحدث فيه أن يكون الشخص ذا شخصيتين مستقلتين أو أكثر وينتقل بوعيه بين تلك الشخصيات من وقت إلى آخر!
ورغم هذا الفهم الخاطئ لمفهوم هذا المرض، إلا أنني سأستعيره اليوم لتوصيف الحال في واقعنا الثقافي في الكويت. فالكويت التي تم اختيارها عاصمة للثقافة العربية قبل سنوات، يتربع على رأس جهازها الإعلامي حالياً عزيزنا السيد محمد الجبري، والذي أراد منع ندوة لـ «مولانا» جلال الدين الرومي قبل مدة، كما تتوالى الأنباء في مواقع التواصل الاجتماعي عن بسط أجهزة الرقابة الإعلامية سيطرتها وسطوتها على عدد مهول من الكتب الدينية والفكرية والروائية وغيرها لأسباب متنوعة في تفصيلها، ولكنها تصب في النهاية في قالب واحد قوامه التشدد الثقافي والديني والسياسي والذي لا يتحمل وجود تصورات أخرى للدين والحياة والتاريخ والاستخدام اللغوي غير ما يراه مباحاً ومقبولاً بالمعنى الديني والثقافي والسياسي، مما يتوافق ونظرته الضيقة لهذه الأمور وهامش التعبير المسموح به بخصوصها!
كيف للمرء منا أن يوفق بين الحالتين، أو الشخصيتين اللتين تقوم أجهزة الدولة بتقمصهما في ما يتعلق بالأمور الثقافية؟ فبينما تتحدث حكومتنا عن تحويل البلاد إلى مركز مالي وتجاري ونراها تفتتح المراكز الثقافية ودار الأوبرا وتقيم الحفلات فيها، مروراً بالمشاريع الجبارة التي نتمنى رؤيتها تتحقق على أرض الواقع من استثمار للجزر الكويتية وموانئنا لتنافس من حولنا ونلحق بسباق التنافس الإقليمي والعالمي المشروع، غير متناسين لتاريخ هذه البلاد من انفتاح ثقافي «سابقاً» متمثلاً بالسبق في عالم الفن والإصدارات الصحافية والثقافية التي جعلت من الكويت محل الأنظار في سالف الأيام، أقول، كيف نوفق بين هذه الحالة أو الشخصية الكويتية، وما تقوم به أجهزة الرقابة على المصنفات الإعلامية وأهمها الكتب، من ممارسة أكثر التعريفات الدينية والثقافية واللغوية والسياسية تشدداً وأضيقها أفقاً عند التعامل مع السماح للكتب بالتداول في الكويت، في الوقت الذي نعلم جميعاً أن الغالبية الساحقة من الكتب المنشورة في أي مكان في العالم من الممكن الاطلاع عليها وشراؤها أو حتى تنزيلها مجاناً من الإنترنت وبضغطة زر!


كيف نستطيع أن نمنع أنفسنا من وصف ما سبق بالشيزوفرينيا الثقافية؟ فنحن فعلاً أمام حالتين أو خطابين لأجهزة الدولة، أحدهما يتغنى بماض كاد يندثر من الانفتاح الثقافي ويعدنا بمستقبل زاهر في هذا الاتجاه، بينما يتم تسليم مهمة الرقابة على فكر الناس - والرقابة بالمناسبة هي مفهوم متخلف على الأغلب، ولكن هذا ليس موضوعنا اليوم - لأصحاب الفكر الضيق ليحددوا للناس «شكلاً» وفي الظاهر ما يمكن لهم قراءته والاطلاع عليه. أقول شكلاً، إشارة لما سبق ذكره أعلاه من توافر كل ما تتحفظ عليه أجهزة الرقابة على الإنترنت ولا تستطيع أجهزة الـ «منع» الشكلي هذا ممارسة أي سلطة على العالم الإلكتروني!
همسة أخيرة في أذن بعض سياسيينا، لا مانع البتة من التطرق إلى أي مشكلة أو مظلمة تتعرض لها أي فئة على حدة، ولا يصلح نقد من يقوم بذلك بالفئوية، ولكن قضية الكتب الممنوعة هي قضية بلد بأكمله، فالمنع يطول كتباً دينية وثقافية وسياسية وتاريخية وروائية وغيرها، ولا يخص أحدنا دون الآخر، فلِمَ التركيز على بعض تلك الكتب و«المحسوبة» على فئة معيّنة دون غيرها؟
«احنا ما صدقنا نلاقي موضوع نجتمع عليه كلنا»...
فارحمونا!

alkhadhari@gmail.com
Twitter: @dralkhadhari

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي