نافذة... الأمل
درويش... عاشق الوطن!



شاعر الجرح الفلسطيني، الشاعر المارد، شاعر القضية الأول، عاشق فلسطين، صوت الوطن، سيد الكلمة... وغيرها الكثير من الألقاب التي التحقت باسم الشاعر النابض بحب الحياة والوطن، محمود درويش. ومهما تعددت الألقاب، فإنها تصب كلها في دلالة واحدة، هي أن هذا الشاعر الكبير هو رمز شعري متميز في سماء الشعر العربي.
في ذكرى رحيله العاشرة- 9 أغسطس- احتفل محبو هذا الشاعر في العديد من العواصم العربية بالمناسبة، واستعادوا سيرة واحد هو أهم شعراء فلسطين على الإطلاق، ومن كبار شعراء العرب، ومن الأسماء البارزة بين شعراء العالم. وهذا أقل حقوق محمود درويش علينا، فهو واحد من بناة وجداننا العربي، ومؤسس لفهمنا الحداثة الشعرية العربية.
لم يكن درويش شاعراً للثورة والوطن فقط، بل كان قامة شعرية رائدة، كتب في الحب والحزن، والحياة والموت، وسبر أغوار الوجدان الإنساني بكل منعطفاته، فكان له الأثر البليغ في المشهد الشعري العربي عموماً، بصفته حامل قضية وأفكارا وصورا ومشاعر لا حدود لها، ثم بصفته مجدداً ومطوراً للشعر العربي الحديث حتى آخر حرف نقشه قلمه النابض بالجمال، وكم سحرنا بخلطته الدرويشية، التي تجمع حب الأرض والأم والحبيبة الأنثى في رابطة شعورية واحدة، فدائماً يشع شعره في اتجاهات مختلفة، مكثفاً وغنياً بالدلالات، فيه أحياناً ذلك الغموض الخفيف الذي يبتعد عن التعقيد، يفهم الجميع شعره من دون عناء، فهو يخاطب به العامة أو جمهور القضية، لكن غنى النص وأبعاده الداخلية تجعل النخبة من المثقفين مستمتعة أيضاً بقراءته وسماعه!
الحب هو السر الذي يحمله محمود درويش في شعره، وهو أيقونة إبداعه، لكنه حب بألوان كثيرة، حب الوطن والإنسان، وحب الحياة، فمن يفتقد الحب بالنسبة إليه يفتقد كل أنواعه، من لا يحب أرضه لا يحب أمه ولا يحب الإنسان. لذلك كان شاعرنا وافر الحب، ومحباً حتى النفس الأخير، لذلك كان يستحق الحياة مثل أي طفل فلسطيني، وهو القائل «على هذه الأرض من يستحق الحياة»!
حبه الأول قريته (البروة الفلسطينية) التي اختلع منها منذ نعومة اظافره، عندما بدأت حواسه تتفتح على تفاصيلها، وكان في سن السابعة، فكان نصيبه التهجير واللجوء إلى لبنان عام 1948، لكنه لم يحتمل الابتعاد عن حبيبته فعاد اليها بعد عام، ليجدها مستوطنة بالغرباء، وتبدأ المأساة تحفر خارطة انكسار قلبه الأخضر، ومساراً لأعظم كتّاب الحب والحرب، فهو كان يؤمن أن الحب والموت كلاهما قدر، حين قال: «الحب مثل الموت وعدٌ لا يرد ولا يزول».
قصائد محمود درويش كشجرة الزيتون تنمو وتزداد اخضراراً وإنتاجاً، شجرة السلام التي ترفض الغرباء وأعداء الأرض والبشر والقتلة المحتلين. قصائده شجرات حرية وحياة وجمال، ودواوينه قاربت 30 ديواناً، ترجم معظمها إلى لغات عدة.
تخوض قصائده في رحلة كفاحه ضد الكيان الصهيوني، الملغمة بألوان المشقة والعذاب، وقد اعتقل أكثر من مرة بين العامين 1961 و1972، وهو وإن دخل في بحور السياسة الشائكة، كمستشار للرئيس الراحل ياسر عرفات، ومديراً لمركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، وغيرها من المناصب السياسية والصحافية في دروب الكفاح من أجل الوطن، فإن كل هذه المسؤوليات الجسام لم تفقده إحساسه بالتفاصيل الإنسانية الجميلة، ولم تنسه أنه شاعر القضية أولاً وأخيراً، وأنه لا بد أن يخصص وقتاً من يومه، ينقطع فيه لمحراب إبداعه، ممسكاً قلمه بيده، وأمامه فنجان قهوته، فثمة كثيرون في هذا العالم ينتظرون ما تجود به قريحته!
كان عاشقا للقهوة مخلصا لها، يشيد لها طقوساً، فرائحتها تفتح خلايا دماغه وتجعله يتجلى، إنها مفتاح نهاره، وساحرته التي تكشف له ما يحمله النهار من أسرار. فالعالم بالنسبة إليه كامن في هذا الفنجان الصغير العجيب! ولشدة تعلقه بالقهوة شبهها بالحب الذي قليل منه لا يروي؛ وكثير منه لا يشبع.
هكذا كان محمود درويش؛ الثائر، المناضل، الإنسان المرهف، يهتم بالقضايا الكبرى وتفاصيل الحياة الصغيرة في القصيدة نفسها والديوان نفسه، كتلة من التناقضات التي خلقت تفرداً مطلقاً لشاعر له بصمته الخاصة، فلا توجد أي تجربة شعرية عربية تنتمي لجيل السبعينيات والثمانينيات إلا وعبق درويش فيها، إنه الشاعر الفذ الذي حمل حياته بقصائده، فكانت الكلمة سلاحه النبيل، يرهب به العقول، وحبه الكبير، يذيب به القلوب، يقول عنه الشاعر العبقري أدونيس: «بين ضوء الكلام، وظلمة الزمن، عاش محمود درويش».
إن تجربة درويش الشعرية واسعة، لا يمكننا الإحاطة بها بكلام قليل، يكفي ان نعلم أن هذه التجربة جعلته من كبار شعراء القرن العشرين، وهو إن ترك بصمته في كل بلد أقام فيه، القاهرة وبيروت وتونس والأردن، لكن شعره بات منتشراً في كل بقاع الأرض، والكثير من دول العالم كرمته وأهدته جوائز، وقدرت إبداعه، مثل باريس التي أطلقت اسمه على إحدى ساحات العاصمة الفرنسية لتخلد ذكراه، مزينة بلوحة من أحرفه: «نحب الحياة اذا ما استطعنا اليها سبيلاً».
عاش درويش شاعراً عربياً وكونياً، وحلق في فضاء المبدعين الكبار أمثال شكسبير، فولتير، المتنبي، وغيرهم ممن أناروا الإنسانية بتفرد ابداعهم، وسوف يبقى إبداعه، وتبقى قصائده جرح وطن لا بد من أن يتحرر.
فتحية إجلال لعاشق الوطن.. وسلاماً لروحه الخضراء!
(ما هو الوطن... ليس سؤالاً تجيب عليه وتمضي... إنه حياتك وقضيتك معاً) محمود درويش.
* كاتبة كويتية
Amal.randy@yahoo.com