خواطر صعلوك

في حضرة الشخصية العُمانية

تصغير
تكبير

الجبل... هو حضور طاغ يحيط بك، بعد أن نجح في رحلة البحث عن الخلود عبر رواية كتبتها الأرض تمجد فيها الله بأحبار المناخ.
وفي سلطنة عُمان، وفي حضرة الجبل الأخضر بالتحديد والذي لا يشبه إلا نفسه، وجدت من العسير أن أقرر أيهما كان أوقع في نفسي، هل جمالية مشهد حضور الجبل الذي يحتوينا ويخطف أبصارنا، أم أهله الذين احتووا الجبل بمَنْ عليه أم الصحبة التي معي وترتفع بي أكثر لتذكرني برب الجبل والإنسان.
في أكثر الأماكن صلابة بالسلطنة كالجبل... تلين المشاعر التي تحترم أشكال الوجود المختلفة، وفي أكثر الأماكن صخرية... تتفجر النباتات وأشكال الحياة، وبين أكبر الناس عمراً، تشعر بترحيب الآباء لشباب جاؤوا عابرين.


هناك تتلمس خرافة السحر المنتشرة حول السلطنة، فلا تجدها في الطلاسم، بل في طيب معاملة الشخصية العمانية لزوارها.
الكبار هنا تشكلت وجوههم مع الجبل، بقلوب شجرة تظلك وتدعوك للجلوس والسمر والحديث بعفوية من دون إعداد مسبق أو حواجز للقفز عليها.
يسلم عليك رجل لا تعرفه... فتشعر بأنك تعرفه قافزاً على صنمية ظنونك التي تقول «لا تأمن للغريب»، ويخاطبك رجل عرفته للتو، فتشعر بأنها المرة العاشرة التي تراه فيها مستقراً في ظنك الجديد «هي أرواح الله تتلاقى».
وفي المسجد، ستشعر للمرة الأولى بأن تفاصيل إسبال يديك في الصلاة أو ضمها على صدرك ما هي إلا... لا أدري، أو ربما لم أجد صياغة مناسبة، ولكنني شعرت بأن الجميع متجه إلى الله.
على رأس الجبل تشاهد الأشياء من أعلى، أسفل قدميك صخرة بحجم بيتك قاومت مئات السنين، وترى وادياً وقرية قاوم أهلها صبر الصخرة، تلاحظ امرأة وهي تتنقل بين الأشجار بحثاً عن شيء لا نراه من بعيد، ولكننا نعلم وجوده... في الجبل دائماً معاني التواضع والغيب حاضرة، فكل الأشياء صغيرة من الأعلى وكم نحن صغار أيضاً.
أغمض عينيّ في محاولة للتركيز واسترجاع أحد تعاريف الثقافة في كونها المجموع الكلي للحلول الأصلية التي تبتكرها جماعة من البشر للتكيف مع مشاكلهم وبيئتهم وظروفهم، ثم أدقق النظر في الممرات القديمة والأفلاج والمدرجات الزراعية وتفاعل الإنسان مع الطبيعة، وما حفرته الطبيعة في الملامح والوجوه، كلها مشاهد جعلتني أعيد النظر في ما فعلته المدينة بنا.
العصا عند سكان المدن للأمن، عند سكان الجبل لمآرب أخرى... آخرها الأمن، فهم يكتشفون بها ما تحت صخرة، ويرفعون بها غصن شجرة، ويوجهون حيواناً ويزيحون الغيب عن المجهول.
كل صباح في الجبل يبدأ بالطريقة نفسها، ولكنه يعبر عن نفسه للزائرين بأشكال مختلفة، فمرة يشعرك بأنه قطار ينسى أسماء راكبيه، ومرة يشعرك بأنه محطة تدعوك للاستقرار.
أما برد الجبل، فهو وطن يميز أهله كنار إبراهيم... برداً وسلاماً على أهله، أما على الغريب فيترك أثراً على جلدك يذكرك بالزيارة عندما تعود لوطنك.
في ممرات الجبل تسمع دبيب مشيك وصداه، وإيقاع أنفاسك وتراتبها، وما يحكيه الهواء في أذنك... لتكتشف أنك وللمرة الأولى تسمع الصمت، والصمت أفضل تعابير الروح، والحركة أفضل تعابير الجسد، واللغة أفضل تعابير العقل، وكلها تفاصيل حاضرة في الشخصية العمانية.
تسمع صوت تهشم غصن يابس تحت قدميك، فتتساءل عن اللغة بين أهل الجبل قبل اكتشاف الأقمار الاصطناعية أو خطوط الهاتف... هل كانت الصفير أم دخان النار أم قرع الطبول... تصرخ فيرتد إليك الصوت خاسئاً وهو يقول: «لا تنبش في أسرار لا تعنيك، وابحث عن لغة التواصل في موطنك».
تشاهد فراشة، تتعرف على امرأة ألمانية يحدثها صديقك ولا تحتاج إلى مترجم لكي تكتشف أنهما يتحدثان عن عَظَمة الله، فالله ليس في المساجد فقط، ولكنه في كل المساحات، نلتقط صوراً على عجل... وتبقى الذكرى راسخة.
أياً كانت نظرتي للسياحة في الأرض من قبل، فبالتأكيد أنني كنت في مساحة لم تتسلل إليها الرداءة والقبح بأي حال من الأحوال.
شكراً على المعاني الجميلة يا أصدقائي.
شكراً كامل النابلسي... وأحمد عوض.

كاتب كويتي
moh1alatwan@

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي