خواطر صعلوك

محادثات زوج وزوجة في سيارة

تصغير
تكبير

يبدو الطريق الإسفلتي أمامه لا ينتهي، تهتز السيارة بين الفينة والأخرى بسبب حفرة هنا أو تشقق في الأرض هناك، وبجانبه زوجته تمسك بجريدة «الراي» الغراء التي يحبها القراء، وقد جاء الخبر في صفحتها الأولى «التقاعد المبكر... آت؟». وقد ولّد لديها هذا الخبر الرغبة في الحديث، ولكنها لسبب ما قررت الصمت، وحتى عندما وقعت عيناها على تفاصيل الخبر الذي يقول «هناك انعدام ثقة في الأرقام والبيانات المتعلقة بمؤسسة التأمينات والمتعلقة بالعجز الإكتواري وضبابية تفصيل هذا العجز». أرادت أن تسأل زوجها عن معنى كلمة العجز الإكتواري، ولكنها بدلاً من ذلك أشاحت بوجهها نحو النافذة وأطلقت جسراً من التنهيدات القادرة على إطفاء نار الأولمبياد.
أما هو، فرغم أنه كان قد قرأ هذا الخبر في الصباح، إلا أنه أراد أن يحدثها في أمر آخر يتعلق بلحظة تأمل أصابته أثناء القيادة، فتمتم قائلاً: «كيف نفسر هذه الظاهرة الغريبة... فكل سيارة أمامنا ملتزمة بالحارة المرورية رغم أن من فيها غير ملتزم بقوانين الانتقال بينها؟».
فنظرت إليه وكأنها تطلب توضيحاً لما تمتم به، واعتقدت لوهلة أنه يحدث نفسه كالعادة، ولكنه قرر فجأة أن يواسيها، خصوصاً وأنه يعلم سبب اهتمامها بخبر مثل (التقاعد المبكر)، فبدأ في عملية ذهنية حسابية للعجز الإكتواري المحتمل الذي تلوح به الحكومة، وبدأ عملية ربط تنموية للملاحظة التي قالها.


فجهز في نفسه خطبة بليغة أراد أن يقول فيها: «أعلم أنك متعبة من بيئة عمل هي نتاج موظفين يلتزمون بالحضور والانصراف، ولكنهم لا يلتزمون بقوانين الترقيات أو أهمية الإنتاج، تماماً كالسيارات التي أمامنا، حيث تلتزم بالحارات المرورية ولا تلتزم بقوانين الانتقال بينها».
ثم أراد أن يضيف: «بيئة عمل تفضل علاوات الولاء على ترقيات الكفاءة، في ظل وجود بطالة مقنعة وملثمة ومنقبة تحمّل الدولة وميزانيتها أكثر بكثير من العجز الإكتواري المحتمل لتقاعد مبكر لأناس تلفظهم بيئة عمل مثل هذه».
وفكر أيضاً أنه من المهم أن يوضح لها بعد ذلك معنى كلمة العجز الإكتواري، ولكنه فضل تأجيل ذلك لما بعد، حيث قال لنفسه إنه من المهم أن يبين لها مدى شعوره بمعاناتها، فأراد أن يقول ضمن خطبته: «وأعلم تماماً أن بيئة عمل مثل هذه تكون القيادات فيها عبارة عن رجال عاهدوا أنفسهم ألا يعملوا إلا لوجه أناس عينوهم في أماكن لا يستحقونها، ما يجعل أكبر إنجازاتهم عبارة عن تدريب موظفين صغار لا أوفياء يحيطون بهم، وصورة على مكاتبهم التقطت لهم - ربما قبل عشرين عاماً - مع رجل يبدو أنه كان هو المسؤول عن وضعهم هنا، مع قدرة هائلة على سردهم لقصص نجاحهم التي لا نعرف بماذا بدأت، ولكننا نعرف إلى ماذا أدت بنا وبالوطن وبالتاريخ الذي ما زال يكتب حتى الآن، وأمثال هؤلاء سيحسنون للكويت كثيراً إذا ما أبلغوا المؤسسة العامة للتأمينات أنهم سيأخذون رواتبهم كاملة مقابل جلوسهم في بيوتهم، خصوصاً أن وجه الشبه بين هؤلاء وبين حراس المرمى في الملاعب أن المكان الذي يقف فيه حارس المرمى لا ينبت فيه العشب، والمكان الذي يتواجد فيه هؤلاء لا يثمر اقتصاداً، بل يضر التنمية ضرراً أكبر من عجز إكتواري محتمل بسبب انصرافهم».
ثم فكر الزوج بأنه عند الانتهاء من هذه النقطة في خطبته التي يريد قولها، فعليه أن يضيف أيضاً: «وأفهم كذلك يا زوجتي العزيزة أنك من الذين صبروا طويلاً دونما جزع لكي تجدي خبراً مفرحاً حول التقاعد المبكر من هذا المناخ الخانق الذي لا يفلت منه أحد، ولكنك بدلاً من ذلك وجدتِ العجز الإكتواري يقف حائلاً، ما يجعلك تكملي مسيرة الشمعة التي تحترق من الجانبين».
هنا بالتحديد قرر الزوج أنه من المناسب بعد أن يسرد كل هذا أن يخبرها بمعنى العجز الإكتواري، وأن يبدأ عملية سرده للخطبة بصوت رخيم يراعي فيها حزنها ويفجر المعاني في الكلمات وليس في الأداء.
أراد أن يقول لها كل هذا وأكثر قليلاً، ولكنه لسبب ما قرر أن يصمت. ويلغي هذه الخطبة ويشيح بوجهه تجاه النافذة ويطلق جسراً من التنهيدات قادرة على إطفاء نار السيجارة التي رماها في الشارع المغفل الإكتواري الذي يقود السيارة التي أمامه.

كاتب كويتي
moh1alatwan@

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي