د. مبارك الذروه / الخريطة ليست الواقع

تصغير
تكبير
هل ما نشاهده في أرض الواقع هو فعلاً ما نشاهده، أم أنها صور وأشكال وجدت أصلاً في أذهاننا، وما الواقع إلا انعكاس حي لوجودها، المشكلات والتداعيات المؤسفة للأزمة السياسية التي تمر بها البلاد هل هي الواقع، أم أنها صورة للخريطة الذهنية التي تقبع أسفل الدماغ، ما يعانيه المستثمر أو المضارب مثلاً في سوق الأوراق المالية، وما يمارسه البعض من إلقاء التهم عن أسباب هذه الأزمة، وغيرها من أزمات العهد الجديد، هل هي حقيقة الواقع أم الخريطة، ما تعانيه البنوك من نقص السيولة ومشاكلها مع المودعين، والخوف المفزع من توقف مشاريع التنمية بسبب غياب الممول، هل هي الخريطة أم الواقع؟
أعتقد أن كثيراً من مشاكلنا الراهنة هي في الحقيقة مشكلات فكرية تأخذ طابعاً سياسياً، أو اقتصادياً في المقام الأول.
إن أفكارنا تؤثر تأثيراً بالغاً في سلوكياتنا، وطرق تعاملنا، فما افكر واقتنع به، وما يدور في ذهني من اتجاهات وخواطر يتحول إلى رغبات وميول تنتهي بعد ذلك بسلوك هذا الطريق أو ذاك.
أفكارنا انتقلت لنا عبر التاريخ لتعيش في حياتنا اليومية، وتتحول الى كثير من قيمنا الاجتماعية، والسياسية، والتجارية، وغيرها، أسيرة لهذه الأحداث التاريخية السالفة.
كم هي المعاني والمفاهيم والأمثال التي نعتنقها اليوم في مؤسساتنا، وبين أبنائنا وأثناء تعاملاتنا في شتى المجالات. أقول كم هي هذه المعاني والمفاهيم التي ترسخت في العقل الجمعي للأمة والوطن بسبب غياب المراجعة، والتقويم، والنقد الموضوعي لتراثنا القديم. هل كل ما ورد في تراثنا مقبول، ألم يكن هناك تدخل في صياغة هذا التراث من قبل الرواة والنقلة؟ إن من يعرف أساسيات المنهج التاريخي يدرك خطورة التحليل الفني للنص من قبل الرواة، وأهمية الاكتفاء بالنقل فقط، وهي وظيفة المؤرخ على كل حال.
الذي جعلني اطرق هذا الباب هو ما نشاهده اليوم من اختلال في الفكر والسلوك عند بعض مرتادي العمل السياسي أو الاقتصادي. فحضور كثير من قيم التعامل السلبية، كالإشاعة مثلا، والضرب تحت الحزام (النميمة)، وظهور عادات استهلاكية قيمية جديدة، وكنتيجة لذلك الرغبة في الربح السريع، وحب الظهور، وتقليد الآخر دون نظر تمحيص، وغياب فقه السؤال، فضلاً عن المواجهة اللحظية والموقتة لكل أزماتنا، إنما هي من صميم أدب التراث الذي نعاني منه.
عوداً على بدء، فإن مشكلاتنا وأزماتنا هي أصلاً في الخريطة وليست في الواقع. أليس بعض من تراثنا البليد يدعو إلى التواكل وترك العمل، وعدم الإنجاز، حين يقول: «لو تمشي مشي الوحوش غير رزقك ما تحوش». أليس تراثنا الذي يحثنا: «إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب»، هو الذي شجع القطيعة والتنازع والاعتداء على حقوق الآخرين بين أبناء الوطن الواحد، وأوجد حالة الترقب المخيفة لكي: «تتغدى به قبل أن يتعشى بك». ألم ينقل لنا التراث آلاف القصص عن البغي، والعدوان، والظلم بثوب الدهاء، والحكمة، والحنكة السياسية، حين يوجهنا: «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب».
الحقيقة أن مفاهيم العقل الجمعي الحاضر لنا كأمة هي مخطوفة من قبل تراثنا وماضينا الذي كتب تحت ظروف وقتية، وبإملاءات سلطوية، وقد يكون تراثاً مشوهاً في كثير من الأحايين. ولكي يعود العقل إلى وعيه، والسلوك إلى رشده لا بد إذاً من تنقيح هذا التراث وخضوعه لمعايير النقد والتمحيص.
إذا أردنا أن نعالج مشاكلنا السياسية المتعلقة بالصراع الدائر بين الحاكم والمحكوم علينا أن نتخلص من لغة الإقصاء والإلغاء، والتجريح، ومفردات التكفير والتسفيه، التي امتلأت بها كتب التراث، ويحل محلها لغة المشاركة والتعاون، ومحاولة فهم الآخر، والتكامل، والتسامح، والعمل المنسق.
لا داعي أن اوضح ما تعج به صفحات التاريخ من القتل والتنكيل لمخالفي هذا الفكر أو ذاك... فلقد كانت تلك الممارسات سبباً في سقوط دول كثيرة أصبحت اليوم مادة إعلامية لمنتجي الأفلام والدراما على حد سواء.
هل ما نراه اليوم في حياتنا السياسية أو المالية أو الرياضية هو الواقع أم الخريطة، هل هو نتاج واقعنا أم نتاج تراكمات التاريخ والتراث؟ علينا إذاً أن نغير الخريطة حنى يتغير الواقع. وهو تغيير ينسحب إلى مراجعة العقل في أحكامه وانتقائيته.
بقي شيء يجب أن ألفت الانتباه إليه هو أن هذا التراث، وهذا التاريخ، من جهة أخرى صنع لنا نجوماً قدموا لنا منارات تضيء لنا الطريق بأروع الأمثلة في قيم العمل والانتاج والفكر. فليست الصورة كلها قاتمة، ولكن لكل أجل كتاب.
د. مبارك الذروه
كاتب وأكاديمي كويتي
maltherwa@yahoo.com
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي