الاهتمام الرسمي العربي بالحوار الحضاري، وفتح أفق الحديث عن قضايا الدين، والإرهاب، والقطيعة الثقافية بين الشرق والغرب، أو بين الأديان الثلاثة، وغيرها من المناطق الممنوعة اللمس، يؤكد أنه لا يصح إلا الصحيح، وأن العاقبة للحوار.
مصطلح الحوار الذي أصبح أكثر شيوعاً في بلداننا، والذي قفز إلى لغتنا لمواجهة مصطلح الصراع الحضاري، ونظريات الإلغاء والإقصاء، يشير إلى أن الخيارات كلها ممكنة، وأن لا مستحيل في لغة التواصل والحوار الحضاري.
رحلة صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح إلى نيويورك لحضور مؤتمر «الحوار بين الحضارات والثقافات» يؤكد لغة «تعالوا إلى كلمة سواء»، ويدعو إلى الطبيعة الإنسانية للخلاف والاختلاف، وفهم الآخر، واحترامه كما هو.
لكن الحوار الذي أصبح متداولاً كلغة عالمية، ومنهجاً يدعو إليه كبار الدول في العالم، يشكو من هجر بعضنا إياه، والتنصل من مضامينه، بعد تفريغها وإعاقتها بالصمم الفكري، وحظوظ النفس، ولي أعناق نصوصها بعيداً عن مدلولاتها وما تهدف إليه.
إن الكويت اليوم هي في أمس الحاجة إلى الحوار. الحوار بين جميع الفعاليات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والرياضية.
لماذا لا تتحاور الحكومة مع المجلس حواراً يخلو من لغة المزارع، والشيكات، والعربون... فيكون حواراً صادقاً يعود ريعه إلى الكويت. لماذا لا تتحاور التكتلات السياسية في ما بينها «حدس»، «السلف»، «التحالف الوطني»، «المستقلون»... حواراً تغيب منه مفردات الأنا، «الشارع يبي»، «علينا ضغوط»، إلى حوار الكويت أولاً وأخيراً. لماذا لا تتحاور مجموعة المعايير، وجماعة التكتل الرياضية، فتغلب مصلحة الوحدة، والانجاز، وعودة العصر الذهبي، على الكسب السياسي، والشيوخ «أبخص».
كثيرة هي هموم الوطن والمواطن، فلماذا تختزل بالأداء الحكومي الضعيف، وهل الحكومة فقط هي النافذة في كل صغيرة وكبيرة، أم أنها عملية شراكة واسعة، ومتشابكة كتشابك خيوط العنكبوت؟ إذا رأيت أزمة في البلاد فاعلم أنها قد افتقدت إلى الحوار، والانصات، وسماع الرأي الآخر.
إن إدارة الأزمات تعتمد بشكل أساسي على الحوار، وإدارته وفقاً لمبدأ عرض الخيارات المتاحة، والذي بالتأكيد لن يتوافر في غياب المناخ الصحي الذي تعيشه البلاد. إن أدبياتنا، وتراثنا الفكري، يزخم بتجارب الحوار ونتائجة المبهرة، كقولي صواب يحتمل الخطأ، وقولك خطأ يحتمل الصواب.
وهذا الرسول (عليه الصلاة والسلام) يتنازل عن رأيه في معركة عسكرية لأحد أصحابه في موقعة بدر، حين اختار النبي (صلى الله عليه وسلم) مكاناً ليعسكروا فيه، وكان بئر بدر أمامهم، فقال أحد الصحابة: «يا رسول الله أهو منزل أنزلكه الله، أم هي الحرب والمكيدة؟» فقال الرسول: «بل هي الحرب»، فقال الرجل: «إذاً هذا ليس بموقع مناسب، بل نضع معسكرنا أمام الماء، والماء خلفنا، فنشرب ولا يشربون، ويكون بمثابة قطع لإمداداتهم ومؤنهم». هنا وافق الرسول على رأيه، ونفذت الخطة، وانتصر المسلمون بسبب سماع الرأي الآخر، والحوار الذي كان له دور في هلاك الخصم وهزيمته.
كم هي الأزمات التي كان نزع فتيلها بأيدينا، ولكننا لم نفعل، وهذا يذكرني بالنظرية التي أثارها ستيفن كوفي 10/90، والتي حددت أن كثيراً من مشاكلنا بنسبة 90 في المئة هي في أيدينا، أما الباقي وهي 10 في المئة بيد الظروف والقدر.
كم أسرة ذبلت زهورها وفسد رحيقها بغياب الحوار، كم وزيراً جاداً صادقاً ومتعاوناً غابت شمسه، ودانت مملكته بسبب غياب الحوار، إن لم يكن سقوط الدول بسبب سقوط الحوار، وفردانية الرأي، فكيف يكون السقوط إذاً؟ فكم أمة هلكت وانتهى سلطانها بغياب الحوار بين أبنائها، وتغلغل الأنانية المفرطة، وحب الذات، والنظرة الأحادية للحوادث والأشياء.
ألم يقل فرعون: «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد». فأين فرعون، وما كان يقول ويختال؟
ليت جميع أعضاء الحكومة، والنواب الكرام، وأطراف النزاع في قضايانا كلها، يذهبون مع صاحب السمو ليشهدوا منافع لهم في بلد الحوار. ليتهم يشاهدون الرجل الأسود وهو يعتلي بالحوار الهادف مع خصمه هرم الرئاسة، الذي منحه صكاً بتوجيه القرارات الكبرى في العالم. ليتهم يشاهدون التطبيق العملي في أن «لا فرق بين أسود وأبيض إلا بالتقوى» في بلد الحوار.
إنها دعوة إلى الحوار البناء من دون وضع تصورات مسبقة أو اتهامات للآخر... فقط الكويت أولاً، وللنظر بعدها فعالية سحر هذا الدواء الرائع والخطير. ولكل أجل كتاب.
د. مبارك الذروة
كاتب وأكاديمي كويتي
maltherwa@yahoo.com