نقد
يوكيو مشيما... التنازع بين غموض الحب وسر البحر



البحر بما يحيقهُ من الغموض والأسرار، يُشكلُ إطاراً لكثير من الحكايات والقصص السردية، بدءاً بـ «الأوديسة» مروراً بـ «ألف ليلة وليلة» وصولاً إلى الروايات، التي صورت مُغامرات الإنسان في البحر ومحاولاته لاكتشاف وجه آخر من الحياة بين تلاطم الأمواج إذ يستحضرُ هنا أرنست همنغواي وتحفته الروائية «الشيخ والبحر»، كذلك «موبي ديك» لهرمان ملفلل و»ثلاثة جياد» للإيطالي آري دي لوكا، الذي يندس بسيرته الذاتية وحياته في الموانئ ورحلاته في بناء أعماله الروائية، إضافة إلى ما قدمه الفن السابع من أفلام تدور حول مصائر الأبطال في لجة البحر.
وتُصنف رواية «البحار الذي لفظه البحر» للكاتب الياباني يوكيو مشيما، وهي من إصدارات دار الآداب ضمن الأعمال الأدبية التي تترصدُ إغراءات البحر بالنسبة للإنسان، وما يحَمِله لاقتحام عالم مجهول... لك أن تفسر رغبة بطل الرواية بتآلف مع البحر كونه باحثاً عن مدارات جديدة بعدما أصبح مداره مقفلاً بفقدان أمه وأبيه.
وتؤطر مدينة يوكوهاما الواقعة على جزيرة هونشو أحداث هذه الرواية، حيث يضعك كاتبُ النص في أجواء عمله بحيثُ تَفهمُ كمتلقٍ للعمل بأنَّ صاحب (حب مُحرم) يتخذُ من علاقة الفتى الناشئ بأمه مَنصةً للحديث عن مشكلات إنسانية ذات طابع ميتافيزيقي، وعندما تحضرُ شخصية البحار تسوكازاكي تتضحُ لك الثيمات التي تُبنى عليها الرواية، ومن ثمَّ تتعرفُ على خلفية شخصية البحار والظروف التي يتقابل فيها مع أم نوبورو (فوزاكو) فالأخيرة تديرُ متجراً لبيع الألبسة (ريكس) وهي أرملة تعيشُ مع ابنها الوحيد في منزل مطل على ميناء المدينة، وقد مضت خمسة أعوام على موت زوجها لذلك تتكفل (فوزاكو) برعاية الابن وإدارة مشاغل المتجر ويعينها في هذا الأمرِ شيبويا الطاعن في السن إذ يسافرُ الأخيرُ إلى أوروبا بدلاً من صاحبة المتجر لاستيراد موضات جديدة.
لعبة الصدفة
لا توجدُ شخصيات كثيرة في هذا العمل، حيثُ تستأثرُ ثلاث شخصيات أساسية بفضاء الرواية... يُمَثِلُ نوبورو الابن جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية ومرحلة ما بعد هزيمة اليابان، رغم صغر سنه وتشدد أمه، إذ تلزمه بنظام صارم، لكن نوبورو يهتدي إلى منفذ ليعبر من خلاله عما يرغب فيه ويعتملُ في أعماقه في ما يبدوُ داخل البيت في صورة شخص عادي يظهرُ جانب آخر من شخصيته مع أصدقائه الذين لهم أماكن محددة للاجتماع، ويغلب عليهم تفكير عبثي ولا يحملون أسماء محددة بل يُعرفهم القائد وهو منظم الشلة بالأرقام.
رغبة نوبورو بعالم البحار ومشهد المراكب والبحارة، هي السبب وراء ظهور البحار في حياة الأُسرة. يرافق بنورو أمه إلى المرفأ متشوقاً لزيارة الحاملة (راكويو)، هنا يلتقي ضابط صف البحرية بنوبورو وأمه ويقوم الراوي بتصوير المشهد بتفاصيله بما فيه التجاذب الداخلي بين البحار وفوزاكو، حيث اشتعلت الرغبة بين الاثنين إذ يقضي البحارُ ليلة مع صاحبة المتجر ويكونُ الابن شاهداً على ما يجري بالغرفة المجاورة عن طريق ثغرة، يحاولُ تَمَثُل وصايا قائد الشلة ويتجاهل الموقف المشهود ويستحضر ما يعتبرونه مبدأ توجيهياً لسلوكياتهم، إذ ما برحوا يكررون بأن الحياة هي الخطأ والفوضى، كما يتصرفُ أفراد الشلة كعباقرة ويحملون آباءهم وزر وجودهم في الحياة واصفين إياهم بالذبابة.
يُذكرُ أن في الفقرات التي يترصدُ فيها الراوي خلوة البحار مع الأرملة تتوقف حركة السرد ويكون الاهتمام كله لوصف المظهر الخارجي والبنية الجسمانية لشخصية المرأة، يأتي اللقاء خاطفاً بين البحار والمرأة، فالأول جاب الدنيا على متن السفُن ولم يَعدْ هناك ما يربطه بالأرض بعد موت والديه، ما إن يتوقف في مدينة حتى يستجيب لنداء البحر مُغادراً اليابسة، هكذا يستمرُ في طوفانه وتتراكم لديه الحكايات والصور عن الأماكن التي مر بها. وبذلك تكون إقامته خارج البحر أمراً طارئاً، بينما المرأة لم تغادر مدينتها. بالاستناد إلى هذا يستبعدُ المتلقي أن تدوم العلاقة بين البحار وفوزاكو، غير أن العمل يُكسر أفق توقع المتلقي إذ يفضلُ البحار الضابط الحياة بجوار المرأة على أن يكون باحثاً عن مجدٍ مبهم الملامح، وأنت تتابعُ ما يتلفظ به الراوي على لسان البحار تتذكرُ ما قالته الكاتبة التركية إليف شفق تعتقدُ الأخيرة بأن الرجل لا يتزوج ما لم يشعر بالتعب كما أن المرأة لا تبحث عن شريك حياتها إلا فضولاً.
غيبة موقتة
يتغيبُ (ريوجي) حاملاً ذكرى أرملة بلغت الثالثة وثلاثين من العمر، هنا يستفيدُ الكاتبُ من تقنية الحذف، إذ لا يكون الراوي ملاحقاً من يغيبَ في أسفاره غير أن هناك تلميحاً للتواصل بالرسائل ومن ثُمَّ يختصر الزمن عبر التحول إلى متابعة لحظة عودة (ريوجي) واستقبال فوزاكو للعائد، وبهذا يتخلصُ الكاتبُ مما لا يُضيفُ شيئاً لبناء الرواية ولا يخدم متواليات الحدث، من هنا ينسابُ السردُ مبقياً محاور الرواية الرئيسة في الواجهة، يُذكر أن
مناخ رواية مشيما لا يختلفُ كثيراً عما يسودُ في أعمال مواطنه ياسوناري كاواباتا، من حيث محدودية المكان وما يُخلف لدى القارئ من الإحساس باللون الكابي في مساحة العمل. ولكن ما يُخفف من حدة القتامة في «البحار الذي لفظه البحر»، هو التنقل بين المشاهد وصراعات داخلية وخارجية بين الشخصيات، فمن جهة هناك صراع بين ريوجي وابن فوزاكو، فبقدر ما تتطلع الأخيرة لبقاء البحار، يسعد ابنها لغيابه ولبدء رحلاته، ومن جهة أخرى تنهش الوساوسُ فوزاكو عندما يعرض عليها البحار مشروع الزواج، لذلك تستشيرُ (يوريكو) وهي فنانة ترتادُ متجر فوزاكو لاقتناء آخر الموضات الأوروبية، إذ تتخذ الأمور منحى آخر حين تنصحها الفنانة بالتحري عن شخصية البحار محذرة إياها من وجود الرجال الذين يهدفون إلى سرقة ثروة النساء مُقَنعينَ بأردية الحب والعشق.
فعلاً تطلبُ فوزاكو من إحدى الوكالات التقصي عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية لشخصية البحار وما يصلها من النتائج لا تشوبها شائبةُ، لذلك يمهدُ الاثنان للاقتران ويتم مُفاتحة نوبورو بهذا الشأن، لكن اكتشاف أمر نوبورو ومراقبته لعلاقات حميمية بين البحار وأمه يعمقُ الصراع من جديد. وما يزيدُ من نقمة الابن لعشيق أمه هو البرودة في التصرف ورد الفعل الباهت ما يشعره أكثر بأنه على وشك غياب تام، هنا يتذكرُ كلام القائد بأنه توجد أشياء في هذا العالم أفظع من أن يُضربَ المرءُ، إذ يتودد نوبورو إلى ريوجي ويقنعه بأن أصدقاءه متشوقون لحكايته، غير أن ما ينتظره هو مصير بائس إذ يعطونه شراباً مسموماً.
ومن جانب آخر فالمرأة تزعم بأن زوجها ذاهب إلى موعد مع صديقه في المرفأ، إذ ينتهي العمل كما هو معروض بين دفتي كتاب، لكن يربط المتلقي بين الموقف الأخير وما ساور البطل من رؤى عن الموت في عز علاقات حميمية، ناهيك عن عنصر آخر وهو غيرة الابن كأن الكاتب ألف عمله بوحي مما ورد في نشيد الانشاد «الحبُ عنيف كالموت، والغيرة كئيبة كالمقبرة».
وتُصنف رواية «البحار الذي لفظه البحر» للكاتب الياباني يوكيو مشيما، وهي من إصدارات دار الآداب ضمن الأعمال الأدبية التي تترصدُ إغراءات البحر بالنسبة للإنسان، وما يحَمِله لاقتحام عالم مجهول... لك أن تفسر رغبة بطل الرواية بتآلف مع البحر كونه باحثاً عن مدارات جديدة بعدما أصبح مداره مقفلاً بفقدان أمه وأبيه.
وتؤطر مدينة يوكوهاما الواقعة على جزيرة هونشو أحداث هذه الرواية، حيث يضعك كاتبُ النص في أجواء عمله بحيثُ تَفهمُ كمتلقٍ للعمل بأنَّ صاحب (حب مُحرم) يتخذُ من علاقة الفتى الناشئ بأمه مَنصةً للحديث عن مشكلات إنسانية ذات طابع ميتافيزيقي، وعندما تحضرُ شخصية البحار تسوكازاكي تتضحُ لك الثيمات التي تُبنى عليها الرواية، ومن ثمَّ تتعرفُ على خلفية شخصية البحار والظروف التي يتقابل فيها مع أم نوبورو (فوزاكو) فالأخيرة تديرُ متجراً لبيع الألبسة (ريكس) وهي أرملة تعيشُ مع ابنها الوحيد في منزل مطل على ميناء المدينة، وقد مضت خمسة أعوام على موت زوجها لذلك تتكفل (فوزاكو) برعاية الابن وإدارة مشاغل المتجر ويعينها في هذا الأمرِ شيبويا الطاعن في السن إذ يسافرُ الأخيرُ إلى أوروبا بدلاً من صاحبة المتجر لاستيراد موضات جديدة.
لعبة الصدفة
لا توجدُ شخصيات كثيرة في هذا العمل، حيثُ تستأثرُ ثلاث شخصيات أساسية بفضاء الرواية... يُمَثِلُ نوبورو الابن جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية ومرحلة ما بعد هزيمة اليابان، رغم صغر سنه وتشدد أمه، إذ تلزمه بنظام صارم، لكن نوبورو يهتدي إلى منفذ ليعبر من خلاله عما يرغب فيه ويعتملُ في أعماقه في ما يبدوُ داخل البيت في صورة شخص عادي يظهرُ جانب آخر من شخصيته مع أصدقائه الذين لهم أماكن محددة للاجتماع، ويغلب عليهم تفكير عبثي ولا يحملون أسماء محددة بل يُعرفهم القائد وهو منظم الشلة بالأرقام.
رغبة نوبورو بعالم البحار ومشهد المراكب والبحارة، هي السبب وراء ظهور البحار في حياة الأُسرة. يرافق بنورو أمه إلى المرفأ متشوقاً لزيارة الحاملة (راكويو)، هنا يلتقي ضابط صف البحرية بنوبورو وأمه ويقوم الراوي بتصوير المشهد بتفاصيله بما فيه التجاذب الداخلي بين البحار وفوزاكو، حيث اشتعلت الرغبة بين الاثنين إذ يقضي البحارُ ليلة مع صاحبة المتجر ويكونُ الابن شاهداً على ما يجري بالغرفة المجاورة عن طريق ثغرة، يحاولُ تَمَثُل وصايا قائد الشلة ويتجاهل الموقف المشهود ويستحضر ما يعتبرونه مبدأ توجيهياً لسلوكياتهم، إذ ما برحوا يكررون بأن الحياة هي الخطأ والفوضى، كما يتصرفُ أفراد الشلة كعباقرة ويحملون آباءهم وزر وجودهم في الحياة واصفين إياهم بالذبابة.
يُذكرُ أن في الفقرات التي يترصدُ فيها الراوي خلوة البحار مع الأرملة تتوقف حركة السرد ويكون الاهتمام كله لوصف المظهر الخارجي والبنية الجسمانية لشخصية المرأة، يأتي اللقاء خاطفاً بين البحار والمرأة، فالأول جاب الدنيا على متن السفُن ولم يَعدْ هناك ما يربطه بالأرض بعد موت والديه، ما إن يتوقف في مدينة حتى يستجيب لنداء البحر مُغادراً اليابسة، هكذا يستمرُ في طوفانه وتتراكم لديه الحكايات والصور عن الأماكن التي مر بها. وبذلك تكون إقامته خارج البحر أمراً طارئاً، بينما المرأة لم تغادر مدينتها. بالاستناد إلى هذا يستبعدُ المتلقي أن تدوم العلاقة بين البحار وفوزاكو، غير أن العمل يُكسر أفق توقع المتلقي إذ يفضلُ البحار الضابط الحياة بجوار المرأة على أن يكون باحثاً عن مجدٍ مبهم الملامح، وأنت تتابعُ ما يتلفظ به الراوي على لسان البحار تتذكرُ ما قالته الكاتبة التركية إليف شفق تعتقدُ الأخيرة بأن الرجل لا يتزوج ما لم يشعر بالتعب كما أن المرأة لا تبحث عن شريك حياتها إلا فضولاً.
غيبة موقتة
يتغيبُ (ريوجي) حاملاً ذكرى أرملة بلغت الثالثة وثلاثين من العمر، هنا يستفيدُ الكاتبُ من تقنية الحذف، إذ لا يكون الراوي ملاحقاً من يغيبَ في أسفاره غير أن هناك تلميحاً للتواصل بالرسائل ومن ثُمَّ يختصر الزمن عبر التحول إلى متابعة لحظة عودة (ريوجي) واستقبال فوزاكو للعائد، وبهذا يتخلصُ الكاتبُ مما لا يُضيفُ شيئاً لبناء الرواية ولا يخدم متواليات الحدث، من هنا ينسابُ السردُ مبقياً محاور الرواية الرئيسة في الواجهة، يُذكر أن
مناخ رواية مشيما لا يختلفُ كثيراً عما يسودُ في أعمال مواطنه ياسوناري كاواباتا، من حيث محدودية المكان وما يُخلف لدى القارئ من الإحساس باللون الكابي في مساحة العمل. ولكن ما يُخفف من حدة القتامة في «البحار الذي لفظه البحر»، هو التنقل بين المشاهد وصراعات داخلية وخارجية بين الشخصيات، فمن جهة هناك صراع بين ريوجي وابن فوزاكو، فبقدر ما تتطلع الأخيرة لبقاء البحار، يسعد ابنها لغيابه ولبدء رحلاته، ومن جهة أخرى تنهش الوساوسُ فوزاكو عندما يعرض عليها البحار مشروع الزواج، لذلك تستشيرُ (يوريكو) وهي فنانة ترتادُ متجر فوزاكو لاقتناء آخر الموضات الأوروبية، إذ تتخذ الأمور منحى آخر حين تنصحها الفنانة بالتحري عن شخصية البحار محذرة إياها من وجود الرجال الذين يهدفون إلى سرقة ثروة النساء مُقَنعينَ بأردية الحب والعشق.
فعلاً تطلبُ فوزاكو من إحدى الوكالات التقصي عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية لشخصية البحار وما يصلها من النتائج لا تشوبها شائبةُ، لذلك يمهدُ الاثنان للاقتران ويتم مُفاتحة نوبورو بهذا الشأن، لكن اكتشاف أمر نوبورو ومراقبته لعلاقات حميمية بين البحار وأمه يعمقُ الصراع من جديد. وما يزيدُ من نقمة الابن لعشيق أمه هو البرودة في التصرف ورد الفعل الباهت ما يشعره أكثر بأنه على وشك غياب تام، هنا يتذكرُ كلام القائد بأنه توجد أشياء في هذا العالم أفظع من أن يُضربَ المرءُ، إذ يتودد نوبورو إلى ريوجي ويقنعه بأن أصدقاءه متشوقون لحكايته، غير أن ما ينتظره هو مصير بائس إذ يعطونه شراباً مسموماً.
ومن جانب آخر فالمرأة تزعم بأن زوجها ذاهب إلى موعد مع صديقه في المرفأ، إذ ينتهي العمل كما هو معروض بين دفتي كتاب، لكن يربط المتلقي بين الموقف الأخير وما ساور البطل من رؤى عن الموت في عز علاقات حميمية، ناهيك عن عنصر آخر وهو غيرة الابن كأن الكاتب ألف عمله بوحي مما ورد في نشيد الانشاد «الحبُ عنيف كالموت، والغيرة كئيبة كالمقبرة».