سرّ العلاقة المغربية - الأفريقية

تصغير
تكبير
لم يتفاجأ بخطاب الملك محمد السادس الأخير في مناسبة الذكرى الرابعة والستين لـ «ثورة الملك والشعب» سوى الذين لا يتابعون خطابات العاهل المغربي عن كثب. كان الخطاب الأخير حلقة في تسلسل منطقي يربط بين الداخل والخارج، خصوصا مع الجوار المغربي، أي الجوار الافريقي.

في خطاب «عيد العرش»، آخر الشهر الماضي، ركّز محمّد السادس على الوضع الداخلي. دعا الأحزاب السياسية الى تحمّل مسؤولياتها والى ان تكون في مستوى الإصلاحات السياسية التي كرّسها دستور 2011 الذي اقرّ في استفتاء شعبي. كانت هناك مصارحة ليس يعدها مصارحة بين الملك والشعب. اكّد الملك مرّة أخرى انّه على تواصل مباشر مع المواطن المغربي ومع ما يشعر به وان الأحزاب لم تستطع لعب دورها على الصعيد الوطني وبقيت أسيرة حسابات صغيرة. لا علاقة لهذه الحسابات بالمشروع الوطني الكبير الذي امّن للمغرب كلّ هذا التقدّم والتطور على كلّ الصعد، من تكريس لحقوق المرأة... الى إقامة بنية تحتية تربط بين كل قرية وبلدة ومدينة. وصل الامر بمحمّد السادس ان اضطر الى القول للسياسيين وزعماء الأحزاب: «كفى واتقوا الله في وطنكم. امّا ان تقوموا بمهامكم كاملة وامّا ان تنسحبوا».


بعد هذا الكلام الواضح والصريح، لم تكن حاجة، بعد عشرين يوما من «عيد العرش» للعودة الى الوضع الداخلي في خطاب «ثورة الملك والشعب». كان لا بدّ من صدور كلام واضح يثبت مرّة أخرى ان محمّد السادس على دراية بالاسئلة التي تطرح في بعض الاوساط المغربية ومن بينها لماذا كلّ هذا الاهتمام بافريقيا؟

كان الجواب الذي خرج به العاهل المغربي منطقيا الى آخر حدود، خصوصا عندما ربط بين زياراته لافريقيا وتمتين الموقف المغربي من قضية الصحراء التي هي جزء لا يتجزّأ من ترابه الوطني. لذلك اكّد انّه «اذا كانت 2016 سنة الحزم والصرامة وربط القول بالفعل في التعامل مع المناورات التي كانت تستهدف النيل من حقوقنا، فانّ 2017 هي سنة الوضوح والرجوع الى مبادئ ومرجعيات تسوية هذا النزاع المفتعل في شأن مغربية الصحراء».

كشف محمّد السادس لمواطنيه مدى عمق العلاقات المغربية - الافريقية، مشيرا الى انّ سياسة المغرب القارية ترتكز على معرفة دقيقة بالواقع الافريقي، وقد اكّدتها اكثر من 50 زيارة قام بها شخصيا إلى 29 دولة افريقية، من بينها 14 دولة زارها منذ أكتوبر الماضي.

من منطلق المعرفة بافريقيا ودولها وهمومها، فضلا عن الاستفادة من الزيارات الكثيرة التي تعني الاطلاع على الواقع كما هو بدل البناء على أوهام، استطاع العاهل المغربي الحديث في خطابه عن «المصالح المشتركة من خلال شراكات تضامنية (تقوم على فكرة) رابح رابح». وهذا يعني ان كلّ من دخل في مثل هذه الشراكة رابح.

لم يعزّز المغرب مكانته ومواقعه في افريقيا ولم يستطع الوقوف في وجه الذين عارضوا عودته الى الاتحاد الافريقي فحسب، بل لعلّ اهمّ ما قام به محمّد السادس ايضا هو بناء نوع جديد من العلاقات مع الدول الافريقية. تقوم هذه العلاقات على البعد، كلّ البعد عن الاستغلال والأفكار المسبقة. بالنسبة الى المغرب «افريقيا هي المستقبل. والمستقبل يبدأ اليوم».

تخدم العلاقات المغربية - الافريقية الجميع. انّها علاقات من نوع جديد متطور بين اطراف متعددة تسعى الى خدمة المواطن الافريقي وتوفير مشاريع تنمية تعزّز مكانة القارة السمراء التي تتعاطى معها الدول الكبرى بطريقة وأسلوب فوقيين.

الى جانب ذلك كلّه، ذكّر محمّد السادس كل المعنيين بانّ العلاقات المغربية ليست بنت البارحة، بل تعود الى خمسينات القرن الماضي وستينات ذلك القرن. نفى الاستعمار الفرنسي جدّه ووالده (الملكان محمد الخامس والحسن الثاني رحمهما الله) الى مدغشقر في العام 1953. ادّى ذلك الى «ثورة الملك والشعب». ليس صدفة ان يكون نفي محمّد الخامس والحسن الثاني الى جزيرة افريقية وليس الى مكان آخر خارج القارة التي وضع المغرب نفسه في خدمة قضاياها منذ ما يزيد على نصف القرن.

تكمن اهمّية سياسة محمّد السادس في تلك الاستمرارية في كلّ ما يفعله منذ خلف والده صيف العام 1999. كان هدفه منذ البداية خدمة المواطن المغربي وحماية المغرب ومصالحه. ليس سرّا ان المغرب تحوّل جسرا الى دول افريقية عدّة وانّ هناك شبكة متكاملة من العلاقات بينه وبين محيطه، خصوصا بسبب قربه من القارة الاوروبية.

لم تكن العلاقات الجديدة التي نسجها المغرب مع الدول الافريقية خارج هذا الاطار الذي يجمع بين المصالح المشتركة لاوروبا والمغرب وتلك التي تجمع بين المغرب وافريقيا.

في النهاية، هناك سباق على افريقيا وعلى ثرواتها الضخمة بين قوى وتكتلات كبرى من ابرزها الولايات المتحدة والصين وأوروبا. الأكيد ان المغرب يعرف جيّداً ظروف هذه المنافسة وطبيعتها. ليس عيباً ان يجد بلد عريق لديه موقع استراتيجي ومناجم فوسفات مجالات للتعاون في تنفيذ مشاريع معيّنة. من بين هذه المشاريع مد خط لانابيب الغاز من نيجيريا عبر الأراضي المغربية وانشاء مصانع تنتج الأسمدة بفضل الفوسفات في كلّ من نيجيريا واثيوبيا.

يظلّ الفارق الأساسي بين المغرب من جهة والدول والقوى الكبرى التي تسعى الى إيجاد مواقع لها في افريقيا من جهة أخرى في غاية البساطة. تختزل هذا الفارق عبارة من كلمتين هي عبارة «الاحترام المتبادل». في هاتين الكلمتين يمكن سرّ العلاقة المتجددة بين المملكة ودول القارة السمراء بعيدا عن كلّ أنواع العقد التي يعاني منها أولئك الذين يقولون انه كان على المغرب ان ينفق أمواله في داخل المملكة وليس في دول افريقية. هؤلاء يجهلون معنى المصالح والمنافع المتبادلة القائمة على ما هو ابعد بكثير من المال والقيم المرتبطة بالمادة. انّّم يجهلون بكلّ بساطة معنى الاستثمار في افريقيا وعوائده.

نعم، لدى المغرب ما يقدّمه لافريقيا ولدى افريقيا ما تقدّمه للمغرب «من اجل بناء افريقيا واثقة من نفسها متضامنة ومجتمعة حول مشاريع ملموسة منفتحة على محيطها». هذا كلّ ما في الامر بعيدا عن الحسابات الضيّقة التي ترفض ان تأخذ في الاعتبار ان لدى المغرب ايضا رسالة ذات طابع حضاري مرتبطة بالإسلام كدين معتدل. لو لم يكن الامر كذلك، لما بذل المغرب كلّ هذه الجهود من اجل تخريج أئمة مساجد افارقة كي يكون هؤلاء علاقة بالإسلام الحقيقي بعيداً عن التطرّف والارهاب.

ليس سرّا ان المسيرة الافريقية للمغرب مستمرّة وباتت جزءا من الثوابت في السياسة التي تتبعها. من هذا المنطلق يعمل المغرب على إضفاء طابع رسمي على رغبته في الانضمام الى المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا. وهذا ما سيحصل قريبا.

في السياسة، كما في التجارة والاعمال، لا شيء ينجح مثل النجاح. لم يكن طبيعيا ان يكون كل هذا التسابق من القوى الكبرى على افريقيا، فيما المغرب يتفرّج على ما يدور حوله، بل في القارة التي يقع فيها جغرافيا.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي