رأي قلمي

تتكون ببطء...!

تصغير
تكبير
من العِلل والأمراض المستحكمة في حياتنا الفكرية، الإفراط في وصف الأشياء والحكم عليها في حالتي المدح والذم، وفي لغة الخطاب اليومي. عندما ينعدم التوازن في أشكال العلاقة بين الأشياء، لا نستطيع تسليط الضوء على مناطق التماس بين العقل والعاطفة والمبدأ والمصلحة والذات والموضوع، ولهذا السبب نقع في الإفراط والتهويل في وصف الأشياء والحكم عليها.

التهويل يشكل منتجاً أساسياً من منتجات طغيان العاطفة على العقل، عندما يحب المرء شيئاً، ويفتن به، يحاول أن يجد شرعية ذلك الافتتان عن طريق كيل المدائح وإبراز المحاسن ورفعه إلى مستوى الأسطورة والغرائب والعجائب... وإذا أبغض شيئاً، حاول تسويغه، عن طريق إبراز مساوئه وعيوبه، والهدف من الحالتين واحد، هو إظهار التوازن العقلي والنفسي من خلال صواب موقفه، فضلاً عن أن التهويل والمبالغة في وصف الأشياء والحكم عليها للمديح والذم هي شكل من أشكال خدمة الذات على المستوى العميق. التهويل والمبالغة من الآثار السيئة لقلة انتشار الكتابة، حيث إن الكتابة تنمي التجريد، والكتابة وسيلة للتواصل بين الناس بطريقة غير مباشرة، وبذلك نفتقد للمفردات اللغوية في ساحات النزال اليومي المباشر، هنا يكون صوت العواطف والانفعالات هو الأقوى لأن استجابتها آنية. أما الأحكام العقلية، والتي عادةً تتكون ببطء، ولأنها تحتاج إلى الأناة والروية والتريث، غالبا ما تتراجع في حالات التواصل الشفهي، وهذا ملحوظ لدى الشعوب المثقفة ثقافة كتابية عالية يتراجع التهويل تراجعاً ظاهراً، وما يكون منه أحياناً بسبب نزعة الأنانية وتقديم المصلحة على المبدأ.


التهويل يوضح ويتجلى في المدح والذم لأنهما طرفا المعادلة، إذ ان مديح الشيء يقتضي ذم نظرائه ومنافسيه، كما أن ذم الشيء يقتضي أيضاً مديح أنداده وخصومه، والعاطفة تأثيرها قوي في هذا، عندما يمتدح شخص ما ويثنى عليه، فالثناء لا يكتمل من غير ذم منافسيه ونظرائه، ومديح منهج تؤمن به - مثلاً - يقتضي ذم المناهج الأخرى.

التهويل لا يعد خطأ على مستوى الفكر، أو على مستوى الأخلاق فقط، وإنما يشكل إلى جانب الخطأ مؤشراً واضحاً إلى اختلال علاقتنا ببعضنا، وعلاقتنا بالأشياء الأخرى. حين شددت الشريعة على ضرورة التزام الدقة في أعمال اللسان، وضرورة التزام الحق والعدل في تقويم الأشخاص والأشياء، كان الهدف من ذلك إحقاق الحق، وإيجاد أساس وقاعدة لتوازن الشخصية على المستوى الفردي وعلى المستوى الاجتماعي، من أجل استقامة حياتنا في جوانبها المختلفة، فلندع التهويل والمبالغة ونضع الأشياء في حجمها الطبيعي لنعتدل ونتوازن مع أنفسنا أولاً ثم مع الآخرين.

m.alwohib@gmail.com

mona_alwohaib@
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي