أماكن / فقه الفراق «2 من 2»
| جمال الغيطاني |
أهي صدفة أن يبلغ احتضار محمود درويش أوجه في الوقت نفسه الذي تبلغ فيه قضية شعبه ذروة المأساة أيضا... ليس غريبا توافق المسارين، والآن نتابع بدهشة وفزع مواقع حركة حماس الالكترونية التي تصف محمود درويش بالالحاد والكفر، فكأنهم يسعون الى تشويه أقوى صوت وأرفعه شأنا حمل مأساة الشعب الفلسطيني الى ضمير الانسانية، احتضار الشاعر واحتضار القضية صنوان.
في موسكو عام سبعة وثمانين، شاركنا في مؤتمر ضخم ضد التسليح النووي دعا اليه غورباتشوف، وفيه التقى بصديق عمره سميح القاسم، كنت مهتما بالتقاط الصور لهما لنشرها في جريدة الأخبار، وكان يعلق دائما على نشاطي الصحافي مبديا استنكاره لما أقوم به، كيف يقدم كاتب «يرى أنه مهم وكبير» على ذلك، وكنت أقول له انها مهنتي يا محمود، لم يكن يستوعب أن كتبي الستين لا توفر لي تكاليف الحياة، وأنني مطالب بانفاق أكثر من خمس عشرة ساعة يوميا للعمل الصحافي.
كان يرى في ذلك اهدارا للموهبة وتبديدا للطاقة، وعندما قلت له مرة انني لا أنام أكثر من خمس ساعات يوميا وعلى فترات... وصف ذلك بأنه انتحار، قال لي: انه ينام ثماني ساعات، وقد خصص في نصه البديع «في حضرة الغياب» فصلا كاملا عن النوم.
هذا النص الذي يمسك بناصيتي الشعر والنثر ليس الا أنشودة رحيل مؤلمة، مرثية للذات، واحتفاء بالأبدية، قرأته مرات وتمنيت أن أحفظه عن ظهر قلب، انه يؤسس لفقه الفراق، فراق الذات للذات، فراق الأصل للظل، فراق المحسوس الى اللامحسوس، ما يمكن تحديده الى ما لا يمكن تحديده أو تعيينه... في هذا النص النادر يلقي الأضواء الخفية على خباياه التي لم يدركها أحد.
حتى ابداعه للشعر، فيه وجدت تفصيلا لجملة قالها لي مرة، انه اعتاد أن يفتح القاموس عند بدء نشاطه اليومي... لسان العرب لابن منظور... يفتح على أي صفحة، يتوقف أمام كلمة معينة، يقرأ ما أورده المؤلف عنها، أذكر أنه قال معلقا باختصار: هذه علاقتي بالتراث، وقد وصف علاقته بالقاموس في هذا النص البديع، والذي نشرنا فصلا منه في «أخبار الأدب»، وسوف نستعيده في «أخبار الأدب» شعرا ونثرا ما دمت مسؤولا عن تحريرها، لن يسجن صوته في علب الكاسيت، بل سيكون حضوره مستمرا، لن يكف بالغياب.
أثق أن شعره سوف يعيش كما عاش شعر الشعراء الأوائل من العصور المختلفة... فقد ارتقى الى حد ملامسة قوانين الوجود الخفية وعبر عنها بعمق ورقة ورفعة، وهذا ما لم يتفق الا لقلة في تاريخ الابداع الانساني.
أسس مجلة «الكرمل»... التي كانت منبرا بالغ الرفعة، عاونه سليم بركات أولا ثم صبحي هويدي، وأثناء تخطيطه لاصدارها اتصل بي «لا أذكر من أي بلد؟»، طلب نصا، قلت له انني مشغول منذ سنوات في عمل طويل بدأته عقب رحيل أبي... أعني «كتاب التجليات» طلب مني أن أرسل جزءا أختاره.
وبالفعل أرسلت اليه مقطعا طويلا شغل أكثر من ثلاثين صفحة، وفي ما بعد قرأ الكتاب كاملا وحدثني بما أخجل من ذكره الآن، لم نتعرف شخصيا بما يكفي... كنت بعيدا، وكان بعيدا، وكانت لقاءاتنا مثل لقاء القطارات التي تعبر بعضها بسرعة، غير أنني قرأت نصوصه جيدا وتمثلتها، وقرأ نصوصي أيضا، آخر ما قرأ له «نثار المحو» الدفتر الخامس من دفاتر التدوين، حدثني عنه، لكنني لا أظن أنه قرأ الدفتر السادس «الرن».
وقد خجلت في آخر اتصال أن أستفسر عما اذا كان وصله بالبريد أم لا؟، تعارفنا عبر النصوص وهذا أصدق ما سيتبقى منا، فالكاتب أولا وأخيرا ماثل في نصه، أما الموجود المحدود فيمضي... غير أنني في العلاقة الشخصية الشاحبة أحببته، وقدرته، وأصغيت اليه جيدا، ولاحظته بدقة.
أذكر أننا عندما سافرنا من بوردو الى باريس... لاحظت أنه لا يحمل الا حقيبة يد مما يصعد به الراكب الى الطائرة، فقط ليس غير، وعلى الرغم من وسامته وأناقته، الا أنني لم أره الا عبر لونين، الجاكت الأزرق والبنطلون الرمادي، يقول البعض انه كان حادا، وأحيانا جارحا، وفي تقديري أن هذا نوع من الدفاع عن الذات في مواجهة الخشونة والغلاسة... هكذا رأيت أمل دنقل الذي أعتبره من أرق الذين التقيت بهم، على الرغم مما أشيع عن خشونته.
***
قبل أكثر من شهرين... عقب حديثنا الهاتفي، كانت تشغلني تفصيلات خاصة برحلته، أي شركة طيران؟ أي مسار؟، من مقال الصديق صبحي هويدي المنشور في «أخبار الأب» عرفت أنه سافر عن طريق باريس... أعرف فندق ماديسون بجادة سان جيرمان، فندقه المفضل في الحي اللاتيني، رحلة طويلة من عَمّان الى باريس الى ولاية تكساس حيث المستشفى.
من نبيل درويش علمت «الجمعة» أنه أجرى الجراحة يوم «الأربعاء»، وأن الوضع حرج... يوم السبت اتصلت بنبيل بشأن يتعلق بمناسبة تخصني، فوجئت به يقول لي: ان محمود في حالة موت سريري منذ الأمس... وأن القيادة الفلسطينية مجتمعة وعلى اتصال بالأسرة لاتخاذ القرار المناسب، غير أن محمود لم يسبب الحرج للآخرين، أعد لكل شيء عدته، اذ أوصى ألا يوضع على أجهزة صناعية، أي رفض هذه الحالة التي يكون فيها الانسان عدما من حيث المضمون... موجودا من حيث الشكل.
هكذا رحل في بساطة أقول في بساطة... لأن الأمر جرى هكذا، هكذا بالضبط، في مثل هذه الظروف أمر بحالة من عدم التصديق، وعدم القدرة على الاستيعاب، غير أنني مضيت أستعيد قصيدته الملحمية الرائعة «الجدارية» ونصه الفريد الذي يطاول نصوص أبيحيان التوحيدي الناثر الأعظم في لغتنا العربية في حضرة الغياب.
هل تكتسب النصوص... قيمة اضافية في حالة اكتمال أصحابها وخروجهم الى النهار؟ بالتأكيد، يصبح للنص حياة قائمة بذاته، منفصل عن صاحبه، أقرأ بدهشة واعجاب، وأسى، أما الدهشة فلأنني لم أنتبه كفاية الى أن محمود يحتضر منذ زمن ليس بالهين، عاش موته قبل موته، أما الاعجاب فمصدره رفعة النصوص، أما الأسى فمصدره الفراق، وقد توقفت طويلا أمام الفصل الذي خصصه للحنين في «حضرة الغياب» لقد أسس به لفقه الفراق الانساني، فكل منا مفارق... مفارق.
أهي صدفة أن يبلغ احتضار محمود درويش أوجه في الوقت نفسه الذي تبلغ فيه قضية شعبه ذروة المأساة أيضا... ليس غريبا توافق المسارين، والآن نتابع بدهشة وفزع مواقع حركة حماس الالكترونية التي تصف محمود درويش بالالحاد والكفر، فكأنهم يسعون الى تشويه أقوى صوت وأرفعه شأنا حمل مأساة الشعب الفلسطيني الى ضمير الانسانية، احتضار الشاعر واحتضار القضية صنوان.
في موسكو عام سبعة وثمانين، شاركنا في مؤتمر ضخم ضد التسليح النووي دعا اليه غورباتشوف، وفيه التقى بصديق عمره سميح القاسم، كنت مهتما بالتقاط الصور لهما لنشرها في جريدة الأخبار، وكان يعلق دائما على نشاطي الصحافي مبديا استنكاره لما أقوم به، كيف يقدم كاتب «يرى أنه مهم وكبير» على ذلك، وكنت أقول له انها مهنتي يا محمود، لم يكن يستوعب أن كتبي الستين لا توفر لي تكاليف الحياة، وأنني مطالب بانفاق أكثر من خمس عشرة ساعة يوميا للعمل الصحافي.
كان يرى في ذلك اهدارا للموهبة وتبديدا للطاقة، وعندما قلت له مرة انني لا أنام أكثر من خمس ساعات يوميا وعلى فترات... وصف ذلك بأنه انتحار، قال لي: انه ينام ثماني ساعات، وقد خصص في نصه البديع «في حضرة الغياب» فصلا كاملا عن النوم.
هذا النص الذي يمسك بناصيتي الشعر والنثر ليس الا أنشودة رحيل مؤلمة، مرثية للذات، واحتفاء بالأبدية، قرأته مرات وتمنيت أن أحفظه عن ظهر قلب، انه يؤسس لفقه الفراق، فراق الذات للذات، فراق الأصل للظل، فراق المحسوس الى اللامحسوس، ما يمكن تحديده الى ما لا يمكن تحديده أو تعيينه... في هذا النص النادر يلقي الأضواء الخفية على خباياه التي لم يدركها أحد.
حتى ابداعه للشعر، فيه وجدت تفصيلا لجملة قالها لي مرة، انه اعتاد أن يفتح القاموس عند بدء نشاطه اليومي... لسان العرب لابن منظور... يفتح على أي صفحة، يتوقف أمام كلمة معينة، يقرأ ما أورده المؤلف عنها، أذكر أنه قال معلقا باختصار: هذه علاقتي بالتراث، وقد وصف علاقته بالقاموس في هذا النص البديع، والذي نشرنا فصلا منه في «أخبار الأدب»، وسوف نستعيده في «أخبار الأدب» شعرا ونثرا ما دمت مسؤولا عن تحريرها، لن يسجن صوته في علب الكاسيت، بل سيكون حضوره مستمرا، لن يكف بالغياب.
أثق أن شعره سوف يعيش كما عاش شعر الشعراء الأوائل من العصور المختلفة... فقد ارتقى الى حد ملامسة قوانين الوجود الخفية وعبر عنها بعمق ورقة ورفعة، وهذا ما لم يتفق الا لقلة في تاريخ الابداع الانساني.
أسس مجلة «الكرمل»... التي كانت منبرا بالغ الرفعة، عاونه سليم بركات أولا ثم صبحي هويدي، وأثناء تخطيطه لاصدارها اتصل بي «لا أذكر من أي بلد؟»، طلب نصا، قلت له انني مشغول منذ سنوات في عمل طويل بدأته عقب رحيل أبي... أعني «كتاب التجليات» طلب مني أن أرسل جزءا أختاره.
وبالفعل أرسلت اليه مقطعا طويلا شغل أكثر من ثلاثين صفحة، وفي ما بعد قرأ الكتاب كاملا وحدثني بما أخجل من ذكره الآن، لم نتعرف شخصيا بما يكفي... كنت بعيدا، وكان بعيدا، وكانت لقاءاتنا مثل لقاء القطارات التي تعبر بعضها بسرعة، غير أنني قرأت نصوصه جيدا وتمثلتها، وقرأ نصوصي أيضا، آخر ما قرأ له «نثار المحو» الدفتر الخامس من دفاتر التدوين، حدثني عنه، لكنني لا أظن أنه قرأ الدفتر السادس «الرن».
وقد خجلت في آخر اتصال أن أستفسر عما اذا كان وصله بالبريد أم لا؟، تعارفنا عبر النصوص وهذا أصدق ما سيتبقى منا، فالكاتب أولا وأخيرا ماثل في نصه، أما الموجود المحدود فيمضي... غير أنني في العلاقة الشخصية الشاحبة أحببته، وقدرته، وأصغيت اليه جيدا، ولاحظته بدقة.
أذكر أننا عندما سافرنا من بوردو الى باريس... لاحظت أنه لا يحمل الا حقيبة يد مما يصعد به الراكب الى الطائرة، فقط ليس غير، وعلى الرغم من وسامته وأناقته، الا أنني لم أره الا عبر لونين، الجاكت الأزرق والبنطلون الرمادي، يقول البعض انه كان حادا، وأحيانا جارحا، وفي تقديري أن هذا نوع من الدفاع عن الذات في مواجهة الخشونة والغلاسة... هكذا رأيت أمل دنقل الذي أعتبره من أرق الذين التقيت بهم، على الرغم مما أشيع عن خشونته.
***
قبل أكثر من شهرين... عقب حديثنا الهاتفي، كانت تشغلني تفصيلات خاصة برحلته، أي شركة طيران؟ أي مسار؟، من مقال الصديق صبحي هويدي المنشور في «أخبار الأب» عرفت أنه سافر عن طريق باريس... أعرف فندق ماديسون بجادة سان جيرمان، فندقه المفضل في الحي اللاتيني، رحلة طويلة من عَمّان الى باريس الى ولاية تكساس حيث المستشفى.
من نبيل درويش علمت «الجمعة» أنه أجرى الجراحة يوم «الأربعاء»، وأن الوضع حرج... يوم السبت اتصلت بنبيل بشأن يتعلق بمناسبة تخصني، فوجئت به يقول لي: ان محمود في حالة موت سريري منذ الأمس... وأن القيادة الفلسطينية مجتمعة وعلى اتصال بالأسرة لاتخاذ القرار المناسب، غير أن محمود لم يسبب الحرج للآخرين، أعد لكل شيء عدته، اذ أوصى ألا يوضع على أجهزة صناعية، أي رفض هذه الحالة التي يكون فيها الانسان عدما من حيث المضمون... موجودا من حيث الشكل.
هكذا رحل في بساطة أقول في بساطة... لأن الأمر جرى هكذا، هكذا بالضبط، في مثل هذه الظروف أمر بحالة من عدم التصديق، وعدم القدرة على الاستيعاب، غير أنني مضيت أستعيد قصيدته الملحمية الرائعة «الجدارية» ونصه الفريد الذي يطاول نصوص أبيحيان التوحيدي الناثر الأعظم في لغتنا العربية في حضرة الغياب.
هل تكتسب النصوص... قيمة اضافية في حالة اكتمال أصحابها وخروجهم الى النهار؟ بالتأكيد، يصبح للنص حياة قائمة بذاته، منفصل عن صاحبه، أقرأ بدهشة واعجاب، وأسى، أما الدهشة فلأنني لم أنتبه كفاية الى أن محمود يحتضر منذ زمن ليس بالهين، عاش موته قبل موته، أما الاعجاب فمصدره رفعة النصوص، أما الأسى فمصدره الفراق، وقد توقفت طويلا أمام الفصل الذي خصصه للحنين في «حضرة الغياب» لقد أسس به لفقه الفراق الانساني، فكل منا مفارق... مفارق.