ضفة البحر...! ?

No Image
تصغير
تكبير
في محادثة الجماداتِ أُنْسٌ قَلَّ وجودُه عند الأحياء، لفيض المشاعر ببوحٍ لِما تُريد ألاَّ يسمعه البشر، غيرَ ما يكون من انشراحٍ للصدرِ وارتياحٍ للنفسِ.

كنت في ليلة بعيداً عن همِّ الحياةِ وشُغلها تبوأتُ من صُخور البحر الجِدَّاوي مقعداً، والليلِ زمناً، وتصادُمِ الأمواجِ ببعضها نَغماً، ورَشْقِ البحر عِطراً، أتأمَّلُ البحرَ بِسَعةٍ لا أكاد أُدرك نهايتها، وهدوءٍ في ذلك الصوت، وعلى ما في الموج من اضطرابٍ إلا أنني ألمحُ سكونَه، قلَّبْتُ النظرَ في هذه الحال التي عشتها وعاشرتها، فكنتُ في تبادُلٍ جميلٍ لحديثٍ شيِّقٍ، وحديث البحرِ لا حرجَ يعتريه، ولا سوءَ يَشُوْبُه.

تذكرتُ وأنا على (ضفة البحر) راقماً (ضفة البحر) بَيْتَيْن قِيْلا من شاعرٍ لم يكن مُحباً لركوب البحر، وإن كان الاتفاقُ جارياً في حالينا:

لا أرْكب البحرَ إنِّ أخشى عليَّ منه المعاطب

طينٌ أنا وهو ماءٌ والطينُ في الماء ذائب

فنقلني الخيالُ، والخيالُ بحرٌ، من (ضفة) بحرِ الحِسِّ إلى (ضفة) بحر المعنى، فكم من بحرٍ نغوصُه لا نُدركُ قَعْرَه، وأعجز الغوَّاصين مَن يقفُ على شاطئه، والشاطئان متباينان، والمُدركُ من البحرِ صيداً فعلى ما يوافقُ هواه وذوقَه، والبحرُ يُعطي ما طُلِبَ، فقدر الطالبِ بقدر مطلوبه.

بحورُ الدنيا التي يخوضها الإنسان لا حصر لها، فكلُّ حدَثٍ بحرٌ، وكلُّ مارَّةٍ بحرٌ، وكلُّ شيءٍ بحرٌ، وماءُ البحرِ معانٍ وأسرارٌ، مُلوحة البحرِ جمالٌ وحُسْنٌ، وكمالٌ في الهيئة الظاهرة.

بحرُ المعرفة مُتلاطم الأمواج واسعُ المساحة، بعيد القَعر، مليءُ بالدُّرِّ، و كذلك بحرُ الفِكْرِ لا ينتهي عند حدٍّ، و ليس له غايةٌ زمنية يقف عندها، يسير بأمواجه حيثُ جرَفَتْه رياح الفضاء، ومجاديف قواربه إما تُوجِّهُ المسيرَ وإما تُضيِّعُه، وبحرُ التأمُّلِ لاساحل له، حيث لا حدود تحوطه، فيغرق المرءُ فيه فيكون طيناً، وإن غرِقَ أتى بشيءٍ لا يعرفه إلا من ذاقه، وكلُّ بحرٍ معنويٍ يُعتبَرُ له البحر الحِسِّي.

على صخرة صمَّاء في (ضفة البحر) جلوس الناظر في حال البحر، فلا معرفة للبحر إلا بوقوفٍ على ما يُطِلُّ عليه، تلك الصخرةُ تجعل الإنسان في نُقْلةٍ من عالَم الحِسِّ إلى عالم الشعور في تأمُّلات العقلِ لرسائل البحر، وهي ركيزة الاعتماد حتى يرتفع بها الإنسان و يعتلي، فتكون قدمُه على موطئٍ راسخ، فثباتُ الأصلِ ضمانٌ لثمر الفرع.

«الشاطئ» هو البداية الأساسية، والواجهة الرئيسية للبحر، لأنه نُقطة الانطلاق، وهو برُّ لكلِّ خائضٍ، والبحر الذي لا شاطئَ له مَهْلَكةٌ، وتارك الشاطئ إلى مواطنِ العُمقِ خاطبٌ لِحتفه، و مُتعة البحر في شواطئه، و لقاءات أهل الكمال تبدأ بالشواطئ.

«الموج» لا يقف البحر عَن ضرْبِ أمواجه ببعضها وهي حِلية البحر، وعِقْد جماله، وهي ضربة قاتلة، وصفعةٌ مُوْجِعة، فما كلُّ موجةٍ بَهجةُ مُهجةٍ، ففي تلاطُم أمواج البحرِ رسائل محفوظة، وفي قطرات مئة موجاتٌ، ولا يعرفها إلا مَن مارَسَ، فَلِمَن لا يعرف رسالة الأمواجِ أن يقفَ دون المغامرة.

الغرق في البحر لا يحدثُ إلا لمن لا يُتْقِن مهارة الغوصِ، والغائصُ الماهرُ يُخرج اللؤلؤ من مكامنه، ولا يكون الغوصُ إلا في الأعماق، والوصول إلى الأعماقِ لن يتأتَّى إلا بعد مجاوزة البداية، والبداية للبحرِ من شاطئه، وقاعدة الشاطئ ضفته، فمهارةُ التعمُّقِ مِن مهارة البَدْءِ، وهكذا كلُّ بحرٍ.

لم تدعني الأمواج التي أرسلتها الرياح متلاطمة أُطيلُ مُكثاً في مسامرة البحر، ولكأني بها تُوحي برسالةٍ أَنْ غادِر (ضفة البحر) فليست قراراً لأحد فيتبوأها، وإنما هي نُقطة بَدْءٍ، وبدايةُ انطلاقٍ، والاعتبارُ بحقائقِ التأمُّلاتِ لا بعلائقها.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي