نافذة... الأمل
دوستويفسكي... عبقري الرواية



المدن العريقة تحيي ذكرى مبدعيها!
هكذا فعلت عاصمة القياصرة سانت بطرسبورغ، مدينة عبقري الرواية النفسية، أكبر الروائيين الروس دوستويفسكي، عندما أقامت احتفالاً ثقافياً راقياً، يفوح بعبق الأدب الروسي الأصيل، بعدما خصصت له يوماً يتضمن عروضا وندوات عامة، وزيارات مبرمجة إلى أماكن وصفها في رواياته، ليعيش الزائر في عوالمه ونسيج خيالاته الرائعة التي رسمت صوراً باتت ذاكرة لهذه الأماكن.
إنه احتفال يليق بأشهر كتابها وأكثرهم قدرة على جعل الغموض سمة رائعة في الأدب.
فمنذ عام 2010 تحتفي سانت بطرسبورغ عاصمة الثقافة الروسية، وثاني مدن روسيا، بـ «يوم دوستويفسكي»، في السبت الأول من يوليو من كل عام، فتصبح المدينة مسرحاً كبيراً تعرض فيه شخصيات رواياته الخالدة، وتذكر زائريها والعالم بأسره أن هذا العبقري من أبنائها الأبرار، الذين تفتخر بهم!
تكمن أهمية المدينة بالنسبة إلى دوستويفسكي أنه استوحى منها الكثير من شخصيات رواياته، فقد أمضى فيها نصف حياته تقريباً، وتذوق حلوها ومرها، فكتب عنها الكثير لوقوعه في حبها، وأيضاً كرهها في آن واحد، وبشكل غريب. فهذا المزيج من المشاعر المتوهجة، صنع منه واحداً من أبرز كتاب المدن الكبرى في العالم، فمحطات حياته لا يمكن فصلها عن هذه المدينة، التي جذبته بشكل لا يقاوم، فنقل بأدبه صورها وصفاتها إلى العالم، وطارت بها رواياته وقصص إلى كل أرجاء المعمورة.
أتى دوستويفسكي إلى مدينته وعمره ستة عشر عاماً، أي بدأ فيها يتفتح ربيع عمره، مع والده وأخيه، وبدأ دراسة الهندسة العسكرية، لكنه وقع في غرام زوايا الأدب وتيّم بعالمه السحري، وذاب فيه، ثم عندما انتمى إلى مجموعة أدبية سرية تسمى «رابطة بيتراشيفسكي»، تناقش الكتب الممنوعة التي تنتقد النظام الحاكم في روسيا والقضايا المعاصرة، حُكم عليه بالإعدام، وفي اللحظات الأخيرة قبل أن يفارق الحياة، ويكاد ان يخسر العالم أعظم الأقلام الروائية، خُفِّف الحكم عليه، فقضى أربع سنوات في الأعمال الشاقة، وست سنوات في الخدمة العسكرية في المنفى. كل هذه الأحداث المفعمة بالمشاعر المتضاربة، خلقت عالماً من الروايات ينضح بفهم عميق للنفس البشرية، ويقدم تحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا في القرن التاسع عشر، ويتناول مجموعة متنوعة من المواضيع الفلسفية والدينية، فمن رحم المعاناة التي عاشها، ولدت إبداعاته الأدبية التي كان لها الأثر العميق والدائم في أدب القرن العشرين، فمن لم يسمع بأشهر أعماله: «الجريمة والعقاب»، «الإخوة كارامازوف»، «الشياطين»، «الأبلة»، وغيرها الكثير من الروايات التي تفضح أشكال العنف والاضطهاد، التي تبسط ظلها على العالم المعاصر، حتى تبدو أحياناً أشبه بالنبوءة، التي تخطت أبعادها الزمانية والمكانية.
هذا هو دوستويفسكي الذي ترجمت كتبه إلى أكثر من 170 لغة، وتأثر به عدد كبير من الكتاب والفلاسفة الكبار الذين أتوا من بعده، مثل ماركيز، جان بول سارتر، تولستوي، وكثر غيرهم، رأوا في أفكاره رسالة تغيير للعالم من خلال المقاومة السلمية، ونبذ العنف في المجتمع. ورغم أن العديد من النقاد اعتبروه أحد أعظم النفسانيين في الأدب العالمي، غير أنه لم يكن يرى نفسه كذلك، حين قال: «يشبهونني بالأطباء النفسيين، ولكن هذا الأمر ليس حقيقياً، فأنا واقعي بكل ما تحمله النفس البشرية من حقائق». مع ذلك فإنه أغضب فرويد الذي كان يقول: «ما تطرقت الى قضية نفسية او مرض نفسي إلا وجدت دوستويفسكي قد سبقني إليه».
كان دوستويفسكي فناناً ذا بصيرة نافذة إلى أعماق الحقائق، ليقدم نموذج فكر سلمياً مسلح بالمعرفة وحب الإنسان، ونموذجاً لأدب واقعي أصبح مصدر إلهام للمفكرين والأدباء والفنانين، من القرن التاسع عشر حتى القرن الحادي والعشرين، فالعديد من أعماله تحولت إلى أفلام سينمائية بلغات متعددة تساير روح العصر، فتحيا أعواماً إضافية. ففي اللغة العربية تحولت رواية «الأخوة كارامازوف»، إلى فيلم «الإخوة الأعداء» عام 1974، ومسلسل يحمل العنوان نفسه أيضاً عام 2013، كذلك رواياته الأخرى التي تعتبر من الإبداعات العظيمة العابرة للعصور والقارات، لأنها تعبر بصدق وعمق عن الخطوط السيكولوجية لمفهوم العاطفة في التعبير الروائي، عندما أخرجها من القوالب الجمالية والرومانسية التي غرق فيها كتاب القرن التاسع عشر، وجعل منها تعبيراً واقعياً عن مكنونات إنسانية، في قالب اجتماعي ينغمس فيه الألم مع اللذة والخير مع الشر، فتوجته وبجدارة عبقري الرواية النفسية.
فليس كثيرا على مدينة دوستويفسكي أن تحيي ذكراه اليوم، فهو أحياها في نفوس ملايين البشر وقرب بينها وبين مدن العالم، وجعلها تسكن خيالهم بكل تفاصيلها، فالمدن تحيا وتنتشر من جديد بأنفاس مبدعيها، كأن إبداعهم يهبها أعماراً جديدة ومديدة، مثلما تهبهم باحتفالاتها قيمة جديدة. وكما نفخ دوستويفسكي روح إبداعه في سانت بطرسبورغ، كان الكاتب الإسباني سيرفانتس صاحب رائعته «دون كيشوت» ينشر إسبانيا في أرجاء العالم حتى أطلق على اللغة الإسبانية لغة سيرفانتس. وهكذا كان غوته في ألمانيا وسواه من أدباء العالم العظام.
أما في عالمنا العربي فكانت ثلاثية الروائي نجيب محفوظ، «قصر الشوق، والسكرية، وبين القصرين» لوحة أدبية تصف وبجدارة روح الشارع المصري!
فالأقلام الصادقة تعيش دوما.
وكما قال أعظم كتاب الروس دوستويفسكي: «البدايات للكل والثبات للصادقين».
* كاتبة كويتية
[email protected]
هكذا فعلت عاصمة القياصرة سانت بطرسبورغ، مدينة عبقري الرواية النفسية، أكبر الروائيين الروس دوستويفسكي، عندما أقامت احتفالاً ثقافياً راقياً، يفوح بعبق الأدب الروسي الأصيل، بعدما خصصت له يوماً يتضمن عروضا وندوات عامة، وزيارات مبرمجة إلى أماكن وصفها في رواياته، ليعيش الزائر في عوالمه ونسيج خيالاته الرائعة التي رسمت صوراً باتت ذاكرة لهذه الأماكن.
إنه احتفال يليق بأشهر كتابها وأكثرهم قدرة على جعل الغموض سمة رائعة في الأدب.
فمنذ عام 2010 تحتفي سانت بطرسبورغ عاصمة الثقافة الروسية، وثاني مدن روسيا، بـ «يوم دوستويفسكي»، في السبت الأول من يوليو من كل عام، فتصبح المدينة مسرحاً كبيراً تعرض فيه شخصيات رواياته الخالدة، وتذكر زائريها والعالم بأسره أن هذا العبقري من أبنائها الأبرار، الذين تفتخر بهم!
تكمن أهمية المدينة بالنسبة إلى دوستويفسكي أنه استوحى منها الكثير من شخصيات رواياته، فقد أمضى فيها نصف حياته تقريباً، وتذوق حلوها ومرها، فكتب عنها الكثير لوقوعه في حبها، وأيضاً كرهها في آن واحد، وبشكل غريب. فهذا المزيج من المشاعر المتوهجة، صنع منه واحداً من أبرز كتاب المدن الكبرى في العالم، فمحطات حياته لا يمكن فصلها عن هذه المدينة، التي جذبته بشكل لا يقاوم، فنقل بأدبه صورها وصفاتها إلى العالم، وطارت بها رواياته وقصص إلى كل أرجاء المعمورة.
أتى دوستويفسكي إلى مدينته وعمره ستة عشر عاماً، أي بدأ فيها يتفتح ربيع عمره، مع والده وأخيه، وبدأ دراسة الهندسة العسكرية، لكنه وقع في غرام زوايا الأدب وتيّم بعالمه السحري، وذاب فيه، ثم عندما انتمى إلى مجموعة أدبية سرية تسمى «رابطة بيتراشيفسكي»، تناقش الكتب الممنوعة التي تنتقد النظام الحاكم في روسيا والقضايا المعاصرة، حُكم عليه بالإعدام، وفي اللحظات الأخيرة قبل أن يفارق الحياة، ويكاد ان يخسر العالم أعظم الأقلام الروائية، خُفِّف الحكم عليه، فقضى أربع سنوات في الأعمال الشاقة، وست سنوات في الخدمة العسكرية في المنفى. كل هذه الأحداث المفعمة بالمشاعر المتضاربة، خلقت عالماً من الروايات ينضح بفهم عميق للنفس البشرية، ويقدم تحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا في القرن التاسع عشر، ويتناول مجموعة متنوعة من المواضيع الفلسفية والدينية، فمن رحم المعاناة التي عاشها، ولدت إبداعاته الأدبية التي كان لها الأثر العميق والدائم في أدب القرن العشرين، فمن لم يسمع بأشهر أعماله: «الجريمة والعقاب»، «الإخوة كارامازوف»، «الشياطين»، «الأبلة»، وغيرها الكثير من الروايات التي تفضح أشكال العنف والاضطهاد، التي تبسط ظلها على العالم المعاصر، حتى تبدو أحياناً أشبه بالنبوءة، التي تخطت أبعادها الزمانية والمكانية.
هذا هو دوستويفسكي الذي ترجمت كتبه إلى أكثر من 170 لغة، وتأثر به عدد كبير من الكتاب والفلاسفة الكبار الذين أتوا من بعده، مثل ماركيز، جان بول سارتر، تولستوي، وكثر غيرهم، رأوا في أفكاره رسالة تغيير للعالم من خلال المقاومة السلمية، ونبذ العنف في المجتمع. ورغم أن العديد من النقاد اعتبروه أحد أعظم النفسانيين في الأدب العالمي، غير أنه لم يكن يرى نفسه كذلك، حين قال: «يشبهونني بالأطباء النفسيين، ولكن هذا الأمر ليس حقيقياً، فأنا واقعي بكل ما تحمله النفس البشرية من حقائق». مع ذلك فإنه أغضب فرويد الذي كان يقول: «ما تطرقت الى قضية نفسية او مرض نفسي إلا وجدت دوستويفسكي قد سبقني إليه».
كان دوستويفسكي فناناً ذا بصيرة نافذة إلى أعماق الحقائق، ليقدم نموذج فكر سلمياً مسلح بالمعرفة وحب الإنسان، ونموذجاً لأدب واقعي أصبح مصدر إلهام للمفكرين والأدباء والفنانين، من القرن التاسع عشر حتى القرن الحادي والعشرين، فالعديد من أعماله تحولت إلى أفلام سينمائية بلغات متعددة تساير روح العصر، فتحيا أعواماً إضافية. ففي اللغة العربية تحولت رواية «الأخوة كارامازوف»، إلى فيلم «الإخوة الأعداء» عام 1974، ومسلسل يحمل العنوان نفسه أيضاً عام 2013، كذلك رواياته الأخرى التي تعتبر من الإبداعات العظيمة العابرة للعصور والقارات، لأنها تعبر بصدق وعمق عن الخطوط السيكولوجية لمفهوم العاطفة في التعبير الروائي، عندما أخرجها من القوالب الجمالية والرومانسية التي غرق فيها كتاب القرن التاسع عشر، وجعل منها تعبيراً واقعياً عن مكنونات إنسانية، في قالب اجتماعي ينغمس فيه الألم مع اللذة والخير مع الشر، فتوجته وبجدارة عبقري الرواية النفسية.
فليس كثيرا على مدينة دوستويفسكي أن تحيي ذكراه اليوم، فهو أحياها في نفوس ملايين البشر وقرب بينها وبين مدن العالم، وجعلها تسكن خيالهم بكل تفاصيلها، فالمدن تحيا وتنتشر من جديد بأنفاس مبدعيها، كأن إبداعهم يهبها أعماراً جديدة ومديدة، مثلما تهبهم باحتفالاتها قيمة جديدة. وكما نفخ دوستويفسكي روح إبداعه في سانت بطرسبورغ، كان الكاتب الإسباني سيرفانتس صاحب رائعته «دون كيشوت» ينشر إسبانيا في أرجاء العالم حتى أطلق على اللغة الإسبانية لغة سيرفانتس. وهكذا كان غوته في ألمانيا وسواه من أدباء العالم العظام.
أما في عالمنا العربي فكانت ثلاثية الروائي نجيب محفوظ، «قصر الشوق، والسكرية، وبين القصرين» لوحة أدبية تصف وبجدارة روح الشارع المصري!
فالأقلام الصادقة تعيش دوما.
وكما قال أعظم كتاب الروس دوستويفسكي: «البدايات للكل والثبات للصادقين».
* كاتبة كويتية
[email protected]