مقال / بين السيرة والثرثرة!

تصغير
تكبير
| إبراهيم صموئيل |
يكمن إغراء المذكّرات التي يكتبها أدباء وفنانون ومفكّرون تألّقوا ونالوا الشهرة وذاع صيتهم، في أن كتبهم هذه تسلط الضوء على ولادات نتاجاتهم الأدبية والفنية، وعلى الوجه الآخر غير المعروف لدى القراء من حيواتهم وسيرهم الذاتية منذ طفولتهم وحتى زمن كتابة مذكّراتهم.
وقد عملت الروائية التشيلية إيزابيل الليندي في كتابها الجديد «حصيلة الأيام» الصادر في دمشق ترجمة صالح علماني، على سرد مذكراتها ووقائع حياتها عبر مخاطبة ابنتها الشابة الراحلة «باولا» والتي سبق للمؤلفة أن خصصت عملاً أدبياً كاملاً سمّته باسمها وصدر بالعربية كما حال العديد من أعمالها الأدبية الأخرى.
بعد قراءتي لمذكراتها الصادرة لاحظت أن الكتاب يلبي فضول القراء الراغبين بالاطلاع على حياتها الخاصة ومعرفة وقائع وأحداث زواجها وطلاقها وأماكن سكنها وأسفارها وعلاقاتها الأسريّة مع أبنائها ووالديها وجدها وكذا دائرة معارفها وأصدقائها ومأكولاتها المفضّلة وعدد المنازل التي سكنتها ومواقعها وأشكالها وأثاثاتها، بل وحتى محادثاتها مع جاراتها... إلى آخر التفاصيل اليومية والحياتية التي لا حصر لها، والتي هي، بطبيعة الحال، يوميات وحيوات وتفاصيل لكل الناس، سواء كانوا كتّاباً وفنانين أم لا. لكل كائن بشري، بالضرورة، تفاصيل حياتية لا تحصي - إيزابيل الليندي - بهذا المعنى - واحدة من ملايين الملايين من الناس.
ولكن، خطر لي أن أتساءل أثناء القراءة: أليس للتفاصيل من حدودٍ تحدّها.. أم أن صاحب المذكرات يمكن أن يضم كل شاردة وواردة مهما صغرت ويصدرها في كتاب؟ صحيح أن التفاصيل الصغيرة قد تُكسب المذكرات لحماً ودماً ونبضاً حيّاً تقرّب القارئ من الكاتب وتجعله بمثابة صديق شخصي له... إلا أنه يمكننا أن نسأل: أليس من المهم أن يقوم الكاتب بعملية اختيار واصطفاء وانتقاء، بالغة الدقّة والتنبّه، كما هي الحال مع كتابة أعماله الأدبية الإبداعية؟
في مذكرات الليندي كلام كثير جداً عن تفاصيل هائلة بالغة الصغر والهامشية مما يمكن أن نقع عليه في حياة أي امرئ تشيلي أو غير تشيلي، بحيث يجد القارئ نفسه وسط حشد من معلومات وأرقام وتواريخ ومحادثات، لا تدفع به إلى التوقّف معها، أو التفكير بها، أو التأمّل فيها، بل تنزلق عن صفحات الكتاب وتعبر دون أن تترك أي أثر. أليست المذكرات الأبدع هي المحطات المختارة، المفصلية، المضيئة، والتي تترك آثارها العميقة في القارئ بحيث تنضم تلك المذكرات بجدارة إلى أعمال الكاتب الإبداعية المختلفة؟
لنذكر، على سبيل المثال الأكثر سطوعاً، كتاب محمود درويش «في حضرة الغياب»، الذي رفعه العديد من النقاد إلى مصاف أعماله الإبداعية الكبرى، والذي أراه - شخصياً - الأبدع والأجمل والأعمق أثراً من بين أعمال درويش، حيث قدّم لنا «نصاً» كما سمّاه، جاء مزيجاً ساحراً من مختلف الأجناس الأدبية والكتابية، لغة وموضوعاً ورؤية، بما فيها ذاكرته عن محطات مفصلية في حياته الشخصية.
إن التفاصيل قاتلة حين تكون نافلة، لا عبرة فيها، ولا مغزى، ولا اكتناز معنى. وإذا ما قُدمت بلغة السرد التقريري المباشر، فإنها حينئذ ستكون أقرب إلى نشرة معلومات توثيقية تفيد الإخبار عن الحدث أو الشخصية أو التاريخ، من دون أن تحفز التفكير والتأمل، أو تحقق المتعة الأدبية الفنية المرجوة لدى قارئها!
من هنا كان التساؤل المشروع في اعتقادي: ما الذي يختاره صاحب المذكرات من سيرته الشخصية وما الذي يُبعده من نوافل وتفاصيل؟ وكم يتمكّن الكاتب من تحريض القارئ، عبر مذكراته، للتأمل فيها؟ وكم عليه أن يبذل من الجهد الإبداعي في بنائها وتشكيل لغتها، لتجيء نصاً لا يُقدم تقريراً معلوماتياً، بل قطعة أدبية جديدة تقف بجدارة إلى جانب أعماله كأديب مبدع؟
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي