حينما تسأل أي لبناني عن توقعاته في شأن انتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان وعن مصير الأزمة السياسية فيه، تسمع إجابة واحدة يشترك فيها كل اللبنانيين: «الأمر يتوقّف على ما سيحصل بين واشنطن وأطراف إقليمية فاعلة في المنطقة».
وحينما تسأل أي فلسطيني عن مصير قضيته الآن وعن الانقسام السياسي والأمني الحاد الحاصل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تكون الإجابة: «ما يحصل هو جزء من الصراع الأميركي ـ الإقليمي في المنطقة».
كذلك هي الحال في العراق، بل ربما أشد وضوحاً وإيلاماً من غيره، حيث أميركا حاضرة هناك عسكرياً بشكل احتلال مباشر، وإيران وغيرها هي قوى فاعلة متحركة على الأرض هناك.
وخطورة هذا الوصف لأزمات خطيرة متفجرة في منطقة المشرق العربي، أن فيه تسليماً من الأطراف المحلية بارتهان أوطانهم وقضاياهم ومصيرهم لصراعات خارجية، وبأن دور هذه الأطراف هو دور المراقب أو المنفذ لقرارات وإرادات من هم في عواصم دول أخرى.
لكن هل كان من الممكن لواشنطن أو غيرها من عواصم فاعلة في أزمات المنطقة الآن أن تصادر دور الإرادات الوطنية لو كان هناك حد أدنى من التضامن العربي والرؤية العربية المشتركة لصيغ الحلول المنشودة لهذه الأزمات؟ فغياب التضامن العربي هو المسؤول الأول عن تحوّل أطراف محلية إلى وكلاء الإرادات الخارجية.
إن غياب التضامن وانعدام التنسيق المشترك الآن بين مصر والسعودية وسورية تدفع ثمنه باهظاً الأمة العربية ككل والأزمات المشتعلة في كل من العراق وفلسطين ولبنان. وقد كانت الأحداث التي مرّت خلال أكثر من ربع قرن مضى، مليئة بالدروس عن مخاطر غياب التضامن العربي عموماً، والتنسيق المصري ـ السعودي - السوري خصوصاً.
إذاً، هناك مسؤولية كبرى تقع الآن على القاهرة والرياض ودمشق في وقف التداعي الحاصل في العلاقات بينها، وفي ضرورة وقف ارتهان أزمات المنطقة لإرادات غير عربية.
إن استقلالية القرار الوطني في أي بلد عربي هي متأثرة حكما باستقلالية القرار العربي عموماً. وهناك الآن مزيج من الضغوط الأميركية والأجنبية تمارس لمنع حدوث الأمرين معاً. أي ألا تكون هناك إرادة عربية مشتركة تعبّر عن قرار عربي مستقل، وإلى دفع الأطراف المحلية أيضاً إلى مزيد من الارتهان السياسي والأمني الذي يعطل فاعلية أي قرار وطني مستقل.
إن توافر حد أدنى مثلاً من التنسيق والتفاهم بين القاهرة والرياض ودمشق في شأن الأوضاع الفلسطينية سيؤدّي حتماً إلى نتائج إيجابية مباشرة على الصعيد الفلسطيني وسيعيد الحيوية لما جرى الاتفاق عليه في مكة بين جناحي السلطة الفلسطينية، وسيعطّل المراهنات الإسرائيلية والأميركية على مزيد من الصراعات داخل الجسم الفلسطيني الواحد. أيضاً، فإن التفاهم والتنسيق بين القاهرة والرياض ودمشق في شأن عملية السلام مع إسرائيل سيضع واشنطن وتل أبيب أمام موقف عربي مشترك يضغط لتنفيذ مبادرة السلام العربية ككل وليس فقط لما تريده إسرائيل من تطبيع عربي معها من دون مقابل، بينما المطلوب هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وللجولان ولمزارع شبعا اللبنانية، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة تصون حقوق الشعب الفلسطيني حاضراً وماضياً.
إنّ عودة التفاهم السعودي - السوري - المصري بشأن الأوضاع اللبنانية سيعني أيضاً عودة الروح للأجواء التي صنعت «اتفاق الطائف»، وأنهت الحرب الأهلية اللبنانية وسيعزز من احتمالات التسوية السياسية الداخلية في ظل استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية.
كذلك ضرورة هي أوجه التنسيق والتضامن بين الرياض والقاهرة ودمشق تجاه المسألة العراقية، خصوصاً في مرحلة يشتد فيها خطر تقسيم العراق وما سيتركه ذلك من انعكاسات خطيرة على عموم المنطقة وكياناتها.
المؤسف في واقع حال الأوضاع العربية اليوم أن الشعوب عاجزة عن التحرّك لتغيير أوضاعها في الاتجاه السليم، وأن حكومات الدول العربية الفاعلة تزداد تباعداً في ما بينها، ما يجعل الحكومات والشعوب ومصائر الأوطان مرهونة لإرادات خارجية.
هي عناصر ثلاثة تسود الآن على الواقع العربي، وكل منها يؤثر ويتأثر بالعنصر الآخر: غياب التضامن العربي وتحديداً التنسيق المصري - السعودي - السوري، ثم زيادة حضور الدور الأجنبي في تقرير مصير الشؤون الداخلية العربية وتدويل بعض هذه الأزمات، والعنصر الثالث والأهم هو اندفاع بعض القوى المحلية في أكثر من ساحة صراع إلى مزيد من الارتهان للخارج، بل إلى حدّ التسليم الكامل بما تقرّره واشنطن الآن من أجندة سياسية لأزمات هذه الأوطان.
إن الإرادة الوطنية الحرة هي الأساس لاستقلالية القرار الوطني. والقرار الوطني المستقل هو الذي يجلي صورة المصالح الوطنية ويجعلها هي المعيار في المواقف لا المصالح الفئوية لحكم أو فصيل أو حزب.
وحينما تنظر الأطراف العربية بعيون عربية، وليس بمنظار أميركي أو أجنبي، إلى ما يحدث على أرضها وحول أوطانها، فإنها حتماً ستصل إلى حتمية التضامن العربي وأولوية المصالح الوطنية.
صبحي غندور
مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن
[email protected]