عملاق الرواية الروسية في القرن التاسع عشر «2 من 2»

محطة /ليو تولستوي... زهد الحياة وهرب من الثراء في قطار الدرجة الثالثة

u0644u064au0648 u062au0648u0644u0633u062au0648u064ar
ليو تولستوي
تصغير
تكبير
|موسكو- من هلال الحارثي|
... وفي فصل من فصول حياته جفا تولستوي حياة الترف، فارتدى لباس فلاح فقير وأبى أن يستقل مركبة من (موسكو) إلى (ياسنا بالينا) فمضى منها ماشياً إلى مزرعته، بثيابه الخشنة المهترئة، وصرف عن الخمر والدخان واللحم، وانقلبت همومه النفسية إلى همومٍ اجتماعية، فجعل يزور السجون وأكواخ الفقراء ويرى مظاهر الحرمان والجهل والفقر_، في شعبه الطيب. ولم يعد تولستوي يهتم بالفن والأدب. فيكتب إليه صديقه تورغينيف وهو يحتضر رسالة كانت آخر ما سطرته يده وهو على فراش الموت: «إنني أكتب إليك، لأقول لك: كم أنا سعيد بأن أكون معاصراً لك، ولأطلب إليك طلباً أخيراً، يا صديقي، عد إلى نشاطك الأدبي، أيها الكاتب الأكبر للأرض الروسية، فهلا لبيت رجائي؟».
ولكن تولستوي لم يتحول عن النهج الذي اختاره واصطفاه، فما يزال يقطع الأخشاب ويحرث الأرض مع فلاحيه، ويخصف الأحذية ويصنع بيده لخادمته العجوز حذاء ليقدمه إليها هدية في عيد ميلادها، وتكتب إليه زوجته صوفيا: «لا يسعني إلا أن أتألم، وأنا أرى تبدد قواك الفكرية المبدعة في خصف الأحذية وقطع الأخشاب».
ويقال إنه حين بلغ الثمانين من عمره، كان شيخاً وقوراً، تضرب شهرته آفاق الدنيا كأعظم روائي أنجبته الأرض الروسية الخصبة بالعبقريات. كان رغم سنه المتقدّمة ممثلاً لكل طموحات الشباب، بل والمراهقين، فعندما سأله أحد تلاميذه من الشباب عن سرّ تعايشه مع قضاياهم وهو في الثمانين، قال له: ليس في الأمر سرّ يا بني. فمنذ صباي الباكر أكره العنف وأدعو إلى السلام. العنف يسرع بكل شيء إلى التعفن والفساد! مع العنف يصبح الشباب في حالة من الشيخوخة المروعة! ولكن مع السلام تزدهر ورود الخريف في قلوب كبار السن بنفوس نضرة! وتغدو كالربيع في القلوب! ولذلك أدعوكم أيها الشباب إلى نبذ العنف وكراهيته! حاربوا دعاة الحرب حتى يغدو العالم كله شباباً ولو بلغ أهله الثمانين مثلي هكذا!
وفي أواخر حياته عاد تولستوي لكتابة القصص الخيالية فكتب: موت إيفان إيلييتش 1886م، كما كتب بعض الأعمال المسرحية مثل: قوة الظلام 1888م. وأشهر أعماله التي كتبها في أواخر حياته كانت (البعث) وهي قصة كتبها 1899م، وتليها في الشهرة قصة (الشيطان 1889م، كريوتزسوناتا 1891م، (الحاج مراد) التي نُشرت بعد وفاته والتي توضح عمق معرفته بعلم النفس، ومهارته في الكتابة الأدبية. ومدى حبه ومعرفته بالقفقاس وقد اتصفت كل أعماله بالجدية والعمق وبالطرافة والجمال.
وفي قصة موته أنه ثار غضبه، ذات يوم، وهو يفاجئ زوجته، تسعى خلسة في موهن الليل، لتفتش عن شيء بين أوراقه، وحمله تصرفها على مغادرة داره يائساً، عند منبلج الفجر، دون أن تشعر به واستقل وطبيبه الخاص، القطار في الدرجة الثالثة منه. تاركاً خلفه رسالة جاء فيها: «حبيبتي صوفيا. أعلم أنك ستتألمين كثيراً لرحيلي، وأنه ليحزنني ذلك أشد الحزن، ولكنني آمل من كل قلبي أن تدركي الأسباب التي تدفعني إلى ذلك الرحيل، ولم تكن أمامي وسيلة سواه لتلافي مأساةٍ قد تكون مفجعة! لقد غدا وضعي في هذا البيت غير محتمل يا صوفي! لم أعد قادراً على ممارسة الحياة اليومية في هذه الرفاهية التي تحيط بي، وبات الثراء يخنقني! وقد طال صبري على هذا! حتى انقطع رجائي في مزيد من الصبر. يقيني شر اليأس من عالمٍ تشهيّته كثيراً، كما يتشهاه كل عجوزٍ بلغ السن التي بلغت! وما أنشده هو عالمٌ من السكون والوحدة، لا يفسده ضجيج المال، وأنانية الثراء، ووحشية الرغبة في التملّك! أريد أن أقضي الأيام المتبقية لي من العمر في سلام».
كما جاء فيها أيضا: «أرجوك يا صوفيا، لا تحاولي البحث عن مكاني الذي سأذهب إليه، من أجل إعادتي إلى إيزيانا بوليانا، فإن هذا لن يفيد أحداً شيئاً، بل سيزيد تعاستنا جميعاً، كما أنه لن يغيّر من عزمي على الرحيل، وإني لأشكرك كل الشكر على الثمانية والأربعين عاماً من الحياة الأمينة الكريمة التي أسعد.تني بها! وأتوسل إليك أن تغفري لي كل ما ارتكبت من أخطاء في حقك! مثلما أغفر لك عن طيب خاطر غضبك ومعارضاتك الشديدة المتعلّقة بقراري في التنازل عن أملاكي الشخصية للفلاحين! وأنصحك يا حبيبتي بإخلاص بأن تحاولي التعايش في سماحة مع الموقف الجديد الذي سينشأ برحيلي! وألا تحملي لي بسببه في قلبك أية ضغينة، أو كراهية، وإذا أردت أن تعرفي شيئاً عن أنبائي بعد أن أستقرّ في المكان الذي سأرحل إليه، والذي لا أعرفه إلا بعد أن أصل إليه، فستجدين بغيتك عند ابنتنا العزيزة (ساشا)، فهي وحدها التي سأخصها بذكر مكان حياتي الجديدة، وقد وعدتني بألا تذكر لك أو لسواك مكاني». ووضع الرسالة مطويةً فوق مكتبه ليعطيها لساشا قبل رحيله.
ووصل إلى (شماردينو) فرأى أخته ماري- وكانت تعيش راهبة في دير منعزل- وكتب إلى ابنته (الكسندرا) وكانت تشاطره رأيه في الهروب من بيته، لتوفيه ثمة مع بعض أوراقه، ثم ودع أخته واستأنف السفر مع ابنته وطبيبه.
وكان البرد شديداً يهرأ الجسم، والشيخ المعذب، متعبٌ مهدود القوى، كانت الرحلة طويلة شاقة. وطوى القطار الوئيد، تصفر فيه ريح الخريف، مسافات شاسعة، وفي محطة (ستابافو) وقع (تولستوي) مريضاً بالحمى، ونقل إلى غرفة مدير المحطة، وغصت البرقيات في أرجاء العالم، بكلمات الخبر المؤسي: إن كاتب روسيا الأكبر مشرفٌ على الموت. أما زوجته فقد رمت بنفسها في بركة، حتى تأدّى إليها الخبر، فانتشلت على آخر رمق.
ولحقت به إلى (ستابافو) لتراه، فحيل بينها وبين رؤيته، في البدء، خوفاً على الشيخ المريض. وعلى سرير الموت، كان ( ليف تولستوي) يرى إلى أولاده ومريديه وكانوا قد خفوا جميعاً إليه فتنهمر دموعه، ويردد في زفرة باكية: «إن في الأرض ملايين البشر يتألمون مثلي، فعلام تهتمون كلكم بي»؟
ثم يملي على (الكسندرا) رسالة وداع إلى (صوفيا)، وفي الصباح الباكر يغيب (تولستوي) عن الوعي، فلما دخلت (صوفيا) إلى حجرته، كان يعاني سكرات الموت، وركعت الزوجة المسكينة، أمام قدميه، باكية. وبعد ساعة واحدة، وفي صباح السابع من تشرين الثاني عام 1910 استوفى (ليف نيقولايفتش تولستوي) أنفاسه الأخيرة، وغاب وجه الرواية الروسية إلى الأبد، ودفن في (ياسنا باليانا) الأرض التي نعمت بطفولته وشبابه وشيخوخته، وضمت هذه الأرض المعطاء أنبل وجه روسي عرفه القرن التاسع عشر، ولكن قلب (تولستوي) ظل يخفق، في صفحات رواياته وكتاباته.
رحل تولستوي عن الدنيا تاركاً خلفه إرثاً أدبياً إنسانياً كبيراً دعا فيه إلى المساواة بين الناس، وبلغ عدد ما كتب عشرة آلاف رسالة، حتى لُقّب (محامي مئة مليون من الفلاحين الروس)، وسمّاه الأميركيون (المواطن العالمي).
وحين يطرق النبأ أسماع الأديب الروسي الشهير(مكسيم غوركي) يكتب حزيناً متألماً في رثائه: «أشعر بأنني قد أضحيت، الآن، يتيماً، إنني أخط هذه الحروف، باكياً».
ويرثيه أمير الشعراء، الشاعر الكبير أحمد شوقي في قصيدة بعنوان «وداعاً يا ليف نيقولايفتش تولستوي» فيقول فيها:
تولُستويُ تُجري آيَةُ الع.لم. دَمعَها
عَلَيكَ وَيَبكي بائ.سٌ وَفَقيرُ
وَشَعبٌ ضَعيفُ الرُكن. زالَ نَصيرُهُ
وَما كُلُّ يَومٍ ل.لضَعيف. نَصيرُ
وَيَندُبُ فَلّاحونَ أَنتَ مَنارُهُم
وَأَنتَ س.راجٌ غَيَّبوهُ مُنيرُ
وَيَبكيكَ إ.لفٌ فَوقَ لَيلى نَدامَةً
غَداةَ مَشى ب.العام.ر.يّ. سَريرُ
وَقيلَ تَوَلّى الشَيخُ في الأَرض. هائ.ماً
وَقيلَ ب.دَير. الراه.بات. أَسيرُ
وَقيلَ قَضى لَم يُغن. عَنهُ طَبيبُهُ
وَل.لط.بّ. مَن بَطش. القَضاء. عَذيرُ
إ.ذ أَنتَ جاوَرتَ المَعَرّ.يَّ في الثَرى
وَجاوَر. رَضوى في التُراب. ثَبيرُ
جَماج.مُ تَحتَ الأَرض. عَطَّرَها شَذىً
جَناهُنَّ م.سكٌ فَوقَها وَعَبيرُ
إ.لَيكَ ا.عت.رافي لا ل.قَسٍَّ وَكاه.نٍ
وَنَجوايَ بَعدَ اللَه. وَهوَ غَفورُ
فَزُهدُكَ لَم يُنك.رهُ في الأَرض. عار.فٌ
وَلا مُتَعالٍ في السَماء. كَبيرُ
وَذ.كرٌ كَضَوء. الشَمس. في كُلّ. بَلدَةٍ
وَلا حَظَّ م.ثلُ الشَمس. حينَ تَسيرُ
كما كتب عنه مصطفى لطفي المنفلوطي بعد رحيله فقال: «هنيئا لك أيها الرجل العظيم ما اخترت لنفسك من تلك العزلة الهادئة المطمئنة, لقد نجوت بها من حياة لا سبيل للعاقل فيها إلاّ أن يسكت فيهلك غيظا, أو ينطق فيموت كمدا».
هذا وقد ترك ليو تولستوي قبل رحيله رسالة قال فيها : «دون أن أشير إلى الأمور الأخرى, أقول إنّي ما عدت أستطيع أن أعيش في جو الرفاهية الذي قضيت فيه أيامي حتّى الآن. وسأقدم على ما يقدم عليه, عادة, الشيوخ الذين هم في سني: إنهم يهجرون العالم, ليعيشوا أيامهم الأخيرة في عزلة».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي