إشراقات النقد / جدلية الأنا والآخر في قصيدة «دولار» للشاعر خالد الشايجي

تصغير
تكبير
| سعاد العنزي |
الأنا والآخر... من أهم الجدليات التي شغلت الفكر الإنساني منذ القدم، ومازالت إلى الآن شاغلة العصر الحالي، في خضم زمن العولمة والانفتاح على الآخر الذي قد نقبله أولا نقبله، الأنا دائما يقابلها الآخر، وقد يكون هذا الآخر داخلي في الوطن، وربما يكون في البلد المجاور وقد نتحدث عن أنا عربية مشرقية يقابلها أخرى مغاربية، تكون العلاقة علاقة ائتلاف أم اختلاف توافق أم تعارض؟!، وعلى وجه الخصوص عندما تكون العلاقة بين ثقافتين متغايرتين في الدين والعادات والتقاليد والأخلاقيات، بالإضافة إلى أن تكون إحداهما غالبة والأخرى مغلوبة... لها الغلبة بكل معاني التفوق التقني والتكنولوجي والعلمي والاستبداد والقهر وفي سياساتها القمعية، فيكون آخرا قويا في مقابل أنا ضعيف واهن مستعبد، يأتي بعض من أبنائه ليبايعوا ويزايدوا عليه، هذا هو الفضاء النصي لقصيدة الشاعر الدكتور خالد الشايجي «دولار» من بين القصائد التي شغلت ديوان «هموم شاعر»، الذي صدر أخيرا في هذا العام. الديوان الذي تماس وجرح العروبة الذي لم يندمل إزاء الفجائع المتتالية.(1)
قصيدة «دولار» تطرقت لمن يبيعون أوطانهم مقابل الدولار، والمال الرخيص، ويأتون إلى المنابر العربية، والفضائيات ليتغزلوا في أمجاد العروبة، وبأدوارهم المتخاذلة في الدفاع عن العرب والعروبة في منابر الآخر الغربي... القصيدة تنطلق من شخصية إعلامية عربية ملقبة بدولار، لتواطئها مع الآخر الغربي المتمثل في الولايات المتحدة الأميركية، وارتضت بيع هموم وآمال الأمة بدولار، وتنتهي بالهم الموضوعي العام، الذي يتمثل في هزائم الأمة العربية المتوالية، الواحدة تلو الأخرى، لتعبر عن موقع الأنا العربية الأصيلة إزاء الآخر الداخلي رمز الخيانة، والآخر الخارجي، المتمثل في بلدان العالم ذات السياسات الاستبدادية والقمعية.
وفيما يلي عرض لأهم الوحدات الدلالية في بناء القصيدة:
سخرية العنوان
أول مفتاح لولوج النص هو العنوان... والعنوان هنا تمثل في كلمة واحدة «دولار»، منذ البداية تنقل قارئ النص من أفق إلى أفق، ومن ثقافة إلى ثقافة، إنه بداية الجدلية بين الأنا العربية، والآخر الغربي وأحد متعلقاتها: العملة (الدولار) الذي يفاجئ القارئ ويجعله يتساءل هل هو أمام نص شعري، أم أنه أمام متعلق من متعلقات علم الاقتصاد، بعد أن يبدأ الشاعر بأنسنة الجماد، ومخاطبة الدولار... بنداء البعيد: (يا أيها الدولار)، ليكشف عن بعد هذا المخاطب (الآخر) عن الأنا المتكلم، ليكشف عن حقائق وتشكلات صور الأنا والآخر الخارجي والداخلي في النص.
صورة الآخر الخارجي
إنه الآخر المسيطر والقوي الذي يبدو منذ بداية النص إنه بعيد عن الأنا، وإن العلاقة بينهما غير مستقرة وثابتة، فهو قوي وغالب، ويمارس سياسات قمعية، ويسعى إلى تنفيذها بشراء الذمم وضمائر بعضا من العرب من زايدوا على مصلحة أوطانهم وراحوا يبيعونها مقابل الدولار، الذي يحمله الشاعر مشاعر الكراهية لأنه كان سببا في استعباد النفوس، وهذه إحدى تجليات العنوان، فيقول عنه الشاعر: «يا أيها الدولار كم لك في الورى/ عبدا تطوع أن يباع ويشترى».
صورة الآخر الداخلي
الشاعر وإن أسلم بقوة الآخر وسطوته، واعترف بعلاقته المكثفة بجدليات الصراع والرفض وعدم القبول، المبني على أساس الظلم الواقع من الآخر بسياساته القمعية إزاء الآخر، على الرغم من تبنيها نظريات الحداثة وما بعدها وتتحدث عن قبول الآخر والمحبة والتسامح والمثاقفة والتعايش! فهو يعلن عن إشكالية قائمة في وطنه العربي الكبير، وهي بتواطؤ أبنائه مع الآخر الضد والعدو، وبيع أبناء أمته من أجل الدولار، وآلى على نفسه أن «يتدولرا» وهذه جدلية أخرى للعنوان!
ليصبح آخر داخليا بدلا من أن يكون جزءا من الأنا العربية الرافضة للآخر العدو.
هذا الآخر الداخلي (الضد لأنا الشاعر العربية الأصلية)، إعلامي عربي يدافع عن من يدفع له أكثر، ولقب بدولار، نسبة لخيانته الوطن مقابل الدولار، وهذا تجلي ثالث للعنوان، فيكثف الشاعر في قصيدته سمات هذه الشخصية، الأخلاقية والشكلية، التي هي أشبه بصورة كاريتيرية تمثل قبح الآخر الداخلي موازيا لقبح الآخر الخارجي، الذي لا يتعامل إلا مع من هم نظراء له في المعتقدات. ومقابل لجمال الأنا العربية, فيصفه:
يا أيها الدولار كم لك في الورى
عبدا تطوع أن يباع ويشترى
وإلى رضاك جرى خفيف الحمل من
أخلاقه أعمى بغيرك لا يرى
ميت الضمير ولا حياء يصده
لو باع أعراض الحرائر أو شرى
صورة الأنا العربية
الأنا العربية التي تكشف عنها أنا الشاعر منشئ النص- متماهيا مع «نحن» الأنا التي تجمع العرب تحت مسماها مقابل الآخر أيا كان شكله ومسماه، وعلاقته بها. تبدو صورة الأنا هنا أنا رافضة وغاضبة وساخطة على الوضع، وتوجه سهام النقد في المقام الأول، للأنا الذي انشق عنها وأصبح آخر ا لها ومضادا لتوجهها العربي والقومي، وبخيانته لها، أصبحت ضعيفة وهنة، متألمة، تعيش الخيبات والمرارة، وترى الأفق مسدودا دون أي انفراج وتقدم، ولكنها لا يفوتها أن تشير إلى نهاية هذا المثقف السلبي، بأنه سينتبه له القوم وينشرون مفاسده في يوم ما، وفي ما يلي الأبيات التي تصور ضعف الأنا ومرارتها إزاء انشطارها بين أنا عربية غيورة، وأخرى متخاذلة وسلبية:
كثرت مظالم أمتي من خزيكم
وعلى رؤوسكمو جريرة ماجرى
أوطاننا ضاعت وهيبة اسمها
حتى تجرأت الثعالب في الورى
إنا سنبني نهضة من هؤلاء
دوحقها منا العدا أن تسخرا
دولار... إن نامت عيون اليوم عنك
غدا تكن في مخزياتك منشرا
وبذلك تشكلت الأنا هنا على معيار بديهي لها هو: «حلقة الاتصال بين النزاعات الغريزية، ومثيرات العالم الخارجي، ولها نزوع أخلاقي، يحافظ على القيم ويرعى التقاليد».(2)
كل ما سبق يوضح اننا أم أنوات متعددة تتلاقى وتختلف وتتشكل صورها وأوصافها بحسب مفاهيم كل عصر وتتباين من مكان إلى آخر، فهل ثمة لقاء وحوار مشترك يجمع بين الأمم لتتفق على أن يعيش العالم بتواصل وتلاق ينتج تلاقح الثقافات ويثمر بإيصال الإنسانية إلى قمة هرم الحضارة والرقي والتمدن.
جدلية مثل هذه الجدلية المهمة، لا يطرحها إلا شاعر ذو عمق في الثقافة والفلسفة، وذو هم قومي ووطني مثل الشاعر الدكتور خالد الشايجي.
* ماجستير لغة عربية
Mobdi3on@windowslive.com
المصادر:
1 - د. خالد الشايجي، ديوان «هموم شاعر»، الطبعة الأولى 2008م.
2 - د. علاء عبدالهادي، «شعرية الهوية ونقض فكرة الأصل: الأنا بوصفها أنا أخرى (دراسة ثقافية)، مجلة عالم الفكر، الكويت، العدد 1 مجلد 36, ص 284.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي