30 أكتوبر 2008
12:00 ص
2319
لا تتوافر إحصائية عن عدد السوريين الممنوعين من السفر إلى الخارج، لكنهم بكل تأكيد كثيرون جداً، وفي الآونة الأخيرة أعلنت «المنظمة الوطنية لحقوق الانسان» في سورية أن أجهزة الأمن منعت المخرج محمد ملص، وهو مخرج سينمائي من جيل الرواد من أهم أعماله: أفلام «المنام»، «وكل شيء على ما يرام»، «وباب المقام»، و«أحلام المدينة». في هذا السياق أذكر أن أول فيلم شاهدته يحكي قصة ضياع مدينة القنيطرة ومعاناة أهلها جراء الاحتلال الإسرائيلي كان فيلم «أحلام المدينة»، في ذلك العمر كنت شاباً صغيراً، وإلى اليوم أتمنى أن أرجع وأشاهد من جديد ذلك الفيلم. في ما بعد شاهدت أفلاماً عدة للمخرج ملص، وهو بحق أحد السوريين المبدعين، لكن مأساته أنه لم يقبل أن يجامل، أو يداهن، أو ينافق النظام الشمولي، والمؤسسة الأمنية في سورية، ولم يقبل أن يتحول إلى «طرطور» في دهاليزها، مثل الكثيرين من الفنانين، فكان نصيبه المزيد من التضييق والحصار.
عندما كنا نسمع أغنية «جواز سفر» للفنان اللبناني مارسيل خليفة التي يقول مطلعها: «وقفوني على الحدود وقال بدهم هويتي»، عندما كنا نسمعها كان الفنان اللبناني يخلق فينا حالة وجدانية متعاطفة مع الشعب الفلسطيني الذي يعاني في تنقله، وسفره، وترحاله جراء الاحتلال الإسرائيلي، وجراء التعامل اللاإنساني للأنظمة العربية على الحدود مع الفلسطينيين، لكن الأغنية اليوم صار لها قيمة ومعانٍ أخرى جراء معاناة الآلاف من السوريين الممنوعين من السفر.
بكل تأكيد إن الغاية من وراء هذا السلوك الذي يمارسه النظام الاستبدادي في سورية هو منع تواصل النخب وعدد كبير من شرائح المجتمع السوري مع العالم الخارجي وإيصال معاناتهم، إن النظام يدرك تماماً ماذا يفعل بحق السوريين، وما يقوم به من ممارسات لا إنسانية، لذلك نراه خائفاً من أن يقوم النشطاء بشرح تفاصيل معاناتهم. وهو يريد ويتمنى لو قدر له من خلال ذلك حبس السوريين كلهم، وخنقهم داخل زجاجة أو قارورة كما في المخابر العلمية. كما حشرات التجارب في المخابر.
في مقهى «الروضة» وسط دمشق أخبرني صديقي «ح. س» كيف أنهم منعوه من السفر تحت حجة واهية، وهي أنه التقى بأحد أشقائه أخيراً عندما كان مسافراً إلى أحد البلدان الأوروبية، قال لهم إنه شقيقي، فرد عليه أحد عمداء فرع الأمن العسكري: «في المرة المقبلة سنقوم بسجنك»، فخرج صديقي يومذاك من الفرع الأمني مذعوراً، وعندما أصبح خارج حدود مبنى المؤسسة القمعية الشهيرة قال: «شعرت أنني ولدت من جديد».
صديق آخر يعمل مراسلاً صحافياً لصحيفة أجنبية أخبرني في تلك الجلسة كيف أن ضباطاً من المؤسسات الأمنية اتصلوا بغالبية الصحافيين، ونشطاء في الحقل الاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي، خلال شهر رمضان الماضي طالبين منهم عدم التوجه إلى السفارة الأميركية وتلبية دعوتها لسحور رمضاني، قال ذلك الضابط نفسه للمراسل الصحافي الذي أخبره أن تلبية الدعوة جزء من عمله الصحافي: «أنا أحذرك، سأحولك إلى فرع التجسس، انتبه على نفسك إنها تعاليم عليا من القيادة».
صحافي آخر كان أخبرني في وقت سابق كيف منعوا زوجته من السفر إثر التحقيق معه، ولم يعلم بهذا المنع إلا بعد خمسة أعوام حين قرر هو وأسرته مغادرة سورية إلى الأبد بغير رجعة جراء ما كان يعيشه من خوف ورعب خلال عمله، وحينما حاول أن يستفسر عن سبب منع زوجته رغم أن لا ناقة لها ولا جمل بكل العمل السياسي أو الصحافي، قالوا له بسيطة، وسوف نقوم بإزالة المنع، لكن هذه «البسيطة» استغرقت نحو ستة أشهر، وخلالها انتقلت الزوجة من فرع أمني إلى آخر، ومرة سألها أحد المحققين فيما لو كانت تشارك زوجها كتابة مقالاته الصحافية أم لا، في ما سألها آخر إن كانت تؤيد وتوافق زوجها في كتاباته.
المنع من السفر، يطاول الأسر كلها التي يوجد لأحد أفرادها ولو مجرد نشاط ثقافي أو سياسي، فزوجات وأخوة أو أخوات كل المعارضين السوريين اليوم ممنوعون من السفر، مثل السيدة سمر اللبواني زوجة الناشط كمال اللبواني المسجون منذ العام 2005، كما أن المعارض والناشط رياض سيف، ورغم مرض سرطان البروستات الذي يعاني منه، هو ممنوع من السفر إلى الخارج لأجل العلاج.
أيضاً هناك زوجة المحامي أنور البني وزوجة الناشط كمال البني، والناشطة سهير الأتاسي، وقبل أشهر قامت الأجهزة الأمنية بالتضييق على زوج رئيسة «إعلان دمشق» السيدة فداء الحوراني ما اضطره إلى الخروج من سورية. جدير بالذكر أن نحو عشرة من النشطاء من هيئة «إعلان دمشق»، وعلى رأسهم فداء الحوراني ابنة أحد مؤسسي «حزب البعث» الراحل أكرم الحوراني ما زالوا في السجن. رغم أن أكرم الحوراني الذي أسس «حزب الاشتراكي العربي» قبل اندماجه مع «حزب البعث» منتصف وأواخر الأربعينات هو من أسس لدخول الفلاحين، الذين منهم حالياً الكبار جداً في النظام، إلى السلطة.
لقد كان الحوراني من أشد المدافعين عن مصالح الفقراء والفلاحين في تلك الفترة وأحد أبرز دعاة التأميم والاصلاح. يقال إن أكرم الحوراني كان نادماً قبل موته لأن تنظيراته تلك أوصلت من هم في السلطة اليوم إلى الحكم ويمارسون أشد أنواع البطش والقمع بكل مكونات الشعب السوري وفي مقدمها مكوناته المدنية والمثقفة، وفي المقدمة ابنته الطبيبة فداء.
أيضاً يجب ألا ننسى الآلاف من السوريين الذين هربوا من بلدهم في الثمانينات خلال مرحلة الصراع على السلطة بين «الإخوان المسلمين» وبين النظام السوري، اليوم هناك الآلاف ممنوعون من العودة إلى سورية بحجة علاقتهم مع «الإخوان المسلمين» ومن فكر وعاد كان مصيره السجن، وأحياناً الموت داخل السجن، كما حصل مع بعضهم.
منع السوريين من السفر مسلسل طويل وقديم، لكنه مسلسل درامي يمنع على صناع الدراما والممثلين الخوض في غماره، مطلوب منهم فقط أن يستحدثوا «حارة» شامية، متخلفة وبطولات ضد المستعمر الفرنسي والعثماني وهمجية الإسرائيليين. أما معاناة السوريين داخل حبسهم وسجنهم الكبير أو وطنهم سورية فهي دراما ممنوعة.
زين الشامي
كاتب سوري