برزت مدرسة فقهية دستورية جديدة في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر، في عالمنا العربي والاسلامي حيث تبلورت معالم هذه المدرسة متأثرة بالفكر الاوروبي ومعجبة به، اعجاب المهزوم امام المنتصر، في اعقاب انهيار السلطنة العثمانية ورغبة الانكليز والفرنسيين وغيرهما، في بسط سلطانهم العسكري والفكري جغرافياً على الارض، وفكريا من خلال الطلبة المبتعثين للخارج، ومن خلال النخب والزعامات، وتشكلت من فقهاء القانون ونخبة من المستشارين الغربيين وعلماء مسلمين حيث قامت على ثلاث ركائز، وذلك أعقاب مؤتمر القانون المقارن سنة 1950 المنعقد في لندن، الذي استهدف دراسة الفقه الاسلامي ومقارنته بالقوانين الوضعية.
والركائز الثلاث هي:
ادعاؤهم أن الله فوضهم لوضع القوانين؟
ادعاؤهم موافقة القوانين الوضعية للشريعة؟
ادعاؤهم إمكانية التوفيق بين القانون الروماني والشريعة؟
وعلى هذه الاسس الثلاثة جرى الخطاب السياسي والتشريعي في عالمنا الاسلامي.
ويقول الدكتور السنهوري في رسالته الخلافة: «الله هو المتصرف في السلطة العليا وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم منحنا الله ميزة حق تمثيله في الأرض من حيث إن إجماع إرادتنا إنما تعبر عن ذاته المقدسة».
ويقول عمر الأشقر تعليقاً على السنهوري: «والذين ذهبوا هذا المذهب انتهى بهم المطاف إلى إعطاء الأمة حق نسخ أحكام الشريعة المنصوص عليها وتعديلها». (الشريعة الإلهية لا القوانين الوضعية ص 125).
يقول محمد اللبابيدي: ولا يتوهمن أحد أن هذه الآية {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} البقرة 106، قد انتهى حكمها بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يتبادر إلى ذهن بعضهم. كلا، فإن القرآن قد نص على أن الأمة وحدها هي مصدر السيادة وليس الله، نعم كان الله هو المشرع ابتداء ثم عاد التشريع إلى الأمة انتهاء؟
ثم استدل بقوله تعالى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} الشورى 38.
وبدأت هذه المدرسة عملها بتلفيق المذاهب الإسلامية لتوافق القانون الفرنسي، حيث أخذ بعض فقهاء المسلمين دور القيام بتلفيق الأقوال الفقهية لتلائم رغبات الملوك، حيث كلف الخديوي إسماعيل حاكم مصر، الشيخ مخلوف المنياوي بتطبيق قانون نابليون على مذهب الإمام مالك! وبعد جهد ضخم قرر الشيخ مخلوف أن قانون نابليون لم يخرج عن مذهب الإمام مالك!
وشكل الأزهر سنة 1883 لجنة من علماء مختلف المذاهب لمراجعة القوانين، فخلصت اللجنة في تقريرها الذي اودعته في دار الكتب المصرية: «إن هذه القوانين ببنودها إما أن توافق نصاً عن أحد المذاهب الأربعة أو أنها لا تعارض نصاً فيها أو أنها تعتبر من قبل المصالح المرسلة التي يجوز الاجتهاد فيها رعاية لمصالح الناس». انظر نظم الحكم والإدارة في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية مقارنات بين الشريعة والقانون الدستوري والإداري، الطبعة الثانية بيروت 1971 ص 18-19.
الخلاصة:
في العمل النيابي اليوم أهمل جانب التشريع وسن القوانين وكتابة الدساتير. وهذا الجانب الذي يعتبر من أهم الجوانب في العمل النيابي لصلته الوثيقة بعقيدة التوحيد وبالفهم السليم لقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (سورة الحجرات1). وقوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} سورة الأحزاب 36.
وللأسف، لا يبدو الفرق واضحاً عند السياسيين بين ما يجوز فيه الاجتهاد والتشريع وما لا يجوز فيه الاجتهاد والتشريع، خصوصاً في أحكام الحدود والعبادات والمقدرات كالمواريث والعدد وأنصبة الزكوات ومصارفها والعقائد والأخلاق، فهذه لا يجوز الاجتهاد والتشريع فيها لأن الله تعالى حكمها ومضى عليها العمل واستقر بها الفهم.
وهذا الجانب في تقديري ليس محل اهتمام لدى الكثيرين من المشتغلين في العمل السياسي، فضلاً عن كونه يجب أن يأخذ الحيز الأكبر من جهد الجماعات الإسلامية المختلفة والأفراد الإسلاميين من حيث اولوية مراجعة جميع القوانين التي تم إنجازها لمعرفة المخالفات فيها وتعديلها وتقديم البديل الإسلامي الموافق للشريعة بالدليل، وعدم اعتبار ما درجت عليه هذه المدرسة الفقهية الدستورية في تشريعها للقوانين وتسويغها المخالفات بحجة مراعاة روح العصر او مراعاة الأيسر بالناس وعلى هذا جرت ادبيات العمل السياسي للأسف فهي تسير بلا خطام ولا زمام.
وكيف لا والله تعالى يقول {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} سورة المائدة 50.