كثير من النّاس قد ينطبع في أذهانهم أن الديموقراطية مرادفة للحرّيّة. وحقيقةً فإن الأمر خلافُ ذلك تماما؛ لذا لا بد أولا من التفريق بين المصطلحين. ومن هنا يمكننا القول إن الحرية هي قدرة الفرد على اتخاذ قرار أو الانحياز إلى اختيار من الاختيارات المتاحة أمامه، من دون أي جبر أو ضغط خارجي، وهي أيضا التحرر من كل قيد يمكن أن يحد من طاقات الإنسان وإنتاجه أيا كان نوع هذا القيد، وبالطبع من دون المساس بحريات الآخرين. أما الديموقراطية فتعني حكم الشعب نفسه بنفسه... إذاً الحرية هي مفهوم ينطلق من الأفراد، أما الديموقراطية فهي مفهوم يتعلق بالمجتمع ككل.
ولو تطرقنا إلى الجانب التطبيقي بدلا من الحديث عن نظريات سطرها منظرّون من هنا وهناك، نجد أن الديموقراطية مفهوم نسبي يعتمد على كل مجتمع ومعادلته الاجتماعية ودرجات الرضا المعيشي، والأمر كذلك بالنسبة إلى الحريات. لكن الحريات مفهوم أشمل وأعم؛ إذ إن المجتمعات يمكنها أن تعيش بلا ديموقراطية، لكنها تختنق وتموت بلا حريات. وفي المقابل، للحريات أيضا معايير معينة يفهمها كل مجتمع على حدة، تتشكل وفق «خلطة» من العادات والتقاليد الموروثة والأخلاق المكتسبة من المهاجرين والدخلاء على كل مجتمع.
ويمكن لأي متابع أن يرصد عدداً هائلاً من التحديات والصعوبات التي تواجه الديموقراطية والحرية في العالم العربي، سواء بعد ما يسمى بـ «الربيع العربي» أو قبله، ويستطيع أن يفطن إلى أن ثقافة الإقصاء السياسي والاجتماعي السائدة في عدد من الدول العربية، هي أهم هذه التحديات التي أوجدت بيئة حاضنة للتهميش والقمع وكبت الحريات وغيرها من المشكلات. لكن لا يمكن لهذا المتابع الحديث عن الديموقراطيات العربية من دون أن يأتي على ذكر تجربة كل من الكويت ولبنان في هذا الجانب؛ لماذا؟ لأنه باختصار في صناديق هاتين الدولتين لن تجد أحدا يحقق نسبة 99 في المئة، ولن تجد تقييداً غير مبرر لمن يريد أن يترشح، وكذلك لن تجد اعتقالات أو إعدامات سياسية.
وعلى الرغم من ذلك، فإن التجربة الكويتية، وأيضا تجربة لبنان، ما زالتا قيد التطور، وما زالت كفة الحريات فيهما تفوق كفة الممارسة الديموقراطية في ميزان التنمية، ويعود ذلك إلى ظروف عدة، أبرزها الظروف الإقليمية التي تحيط بهاتين الدولتين، والخريطة الاجتماعية الداخلية التي أُسست كل دولة منهما عليها. ولكن عند المقارنة بين الديموقراطيتين، أي منهما تتفوق على الأخرى؟ وأي الدولتين تتمتع بحريات أكثر من الثانية؟
نجد أن التجربة الديموقراطية في كل من الكويت ولبنان بدأت بتواضع في ثلاثينيات القرن الماضي، بيد أن الديموقراطية الكويتية، من حيث القيود، تحيط بها حواجز تقسيم المناطق (الدوائر) الانتخابية وتأصيلها للطائفية والقبلية. ومن حيث المزايا، نجد أن نظام الحكم الدستوري الوراثي الذي بها يتزاوج مع الديموقراطية تزاوجا فريداً ليس له مثيل في الدنيا، مما يجعله من عوامل الاستقرار السياسي. أما سقف الحريات فيُحسَد عليه الكويتيون؛ لأن حرية التعبير والإعلام مكفولة، وكذلك فإن حرية مزاولة الأعمال وحرية ممارسة العبادة والعقيدة محمية بالدستور والقانون، وهذا ما أكده الكاتب الكبير جهاد الخازن حين سُئل عن أي الدول العربية يفضل أن يعيش فيها؟ فأجاب: «الكويت»! وحين سُئل عن السبب، قال إن الكويت بلد يجمع بين الرفاه والحريات.
أما في لبنان، فإن التزاوج الناجح بين الديموقراطية والنظام الوراثي في الكويت لا يقابله تزاوج ناجح بين الديموقراطية والطائفية... في لبنان تَعطَّل اختيار الرئيس سنتين بسبب عدم اتفاق الطوائف. وفي الكويت لم تتعطل الحياة السياسية منذ ربع قرن. لكن يتميز لبنان كذلك بالأحزاب والعمل الحزبي متميز رغم غبار التدخلات الخارجية. أما الحريات، فكل العرب يشهدون بحرية الإعلام والتعبير في لبنان، وحرية العبادة بالضرورة مؤصلة، لكن حرية الأعمال تتأثر بالنظام الطائفي أحياناً، وقد يمنعك وجودك في مناطق نفوذ طائفة ما من ممارسة أعمالك فيها إلا بدفع «إتاوة» لحاكم هذه المنطقة الذي عادة ما يكون هو زعيم الطائفة، يعني محاصصة سياسية، وربما تجارية.
بين التجربتين الكويتية واللبنانية، وديموقراطيتين اعتبرهما ناجحتين نسبيا، الحريات تعيش أفضل حالاتها. وعلى الرغم من وجود أمثلة عدة لحريات أكثر من تلك التي تتمتع بها هاتان الديموقراطيتان، الكويت ولبنان، في بلاد غير ديموقراطية بالدرجة نفسها، مثلما هي الحال في أغلب دول الخليج، حيث إن حرية كل شيء متوافرة، وفي مصر كذلك، لكن ديموقراطيات هذه الدول - في المقابل - ليست بالقدر الذي تمارسه كل من الكويت ولبنان. وبالطبع هناك ديموقراطيات واعدة، مثل تونس، وحريات انطلقت بعد «ثورة الياسمين»، لكن لحداثة التجربة فيها يجب ألا نستعجل في الحكم عليها، إذ كلما زادت مساحة الممارسة الديموقراطية، وحدود تأثيرها في القرار السياسي، زادت الحريات بالضرورة، لكن العكس غير صحيح. فهناك دول عدة بها سقف من الحريات لا يُطال، لكن ديموقراطيتها فاشلة او مفقودة، وهذا يكون برضى الشعب الذي يفضل أحيانا «الحريات» على تطبيق الديموقراطية.
Nasser.com.kw