بوشكين... الشاعر الروسي الذي تأثر بالقرآن الكريم وسيرة الرسول



| موسكو- من هلال هويدي | ان الحديث عن حياة أكبر شاعر روسي (الكسندر بوشكين) وتأطير قصة ابداعه في حديث مقتضب أمر صعب للغاية، فحياته لم تكن تقل مأسوية واثارة عن أدبه وأشعاره، حيث عاش الحياة شعراً ومات بشكل شاعري فاجع، بل بشكل أقوى من الشعر، وذكرت موسوعات أدبية روسية وعالمية متعددة تحدثت عن شعراء القرن التاسع عشر الميلادي ووصفته بأنه أشهر وأعظم كاتب وشاعر روسي في ذلك القرن.
ولد في موسكو عام 1799 في عائلة ارستقراطية كبيرة، وكان عمه مثقفاً كبيراً وشاعراً معروفاً، وهو الذي زرع في نفسه حب الأدب الكلاسيكي الفرنسي الذي تعرف عليه منذ الطفولة وأصبح مولعاً به. وقد درس في ثانوية شهيرة مخصصة لأولاد النبلاء، وتربى على أفكار الحرية وحب الوطن ونظم الشعر ثم نبغ بسرعة وفرض نفسه على أقرانه، وراح يعيش حياة اللهو والاستمتاع لفترة من الزمن في مدينة سان بطرسبورغ الرائعة، وهي محاطة بالمياه من كل الجهات تقريباً، ولذلك يشبهونها بالبندقية في ايطاليا. ويبدو أن توجهاته الأدبية الأولى كانت ثورية ومضادة لأفكار الطبقة العالية التي ينتمي اليها، كما كانت توجهاته ليبرالية، أي متأثرة بأوروبا الغربية وعصر التنوير والثورة الفرنسية. ثم أنه نفي الى جنوب روسيا، حيث بقي بين عامي 1820 - 1824، ثم تسلمته عائلته وأجبرته على البقاء في المنزل أثناء اندلاع الثورة ضد القيصر، وكانت تعرف أنه يرغب في المشاركة فيها، ثم تغيرت الأمور بعدئذ وتم استدعاؤه من قبل القيصر الى العاصمة لكي يشتغل لديه كمؤرخ رسمي للبلاط وهكذا انتقل من النقيض الى النقيض بعد فشل الثورة الليبرالية.
وفي عام 1831 تزوج بوشكين من فتاة رائعة الجمال تدعى (ناتالي غونتشاروفا) وراح يعيش معها حياة القصور والصالونات الارستقراطية في موسكو ويبدو أن البلاط راح يحيك بعض المؤامرات ضده من أجل الايقاع به، وقد أدت في نهاية المطاف الى حصول تلك المبارزة الشهيرة التي أدت الى مقتله وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، وعلى هذا النحو انتهت حياة الكسندر بوشكين مؤسس الشعر الحديث وهي نهاية فاجعة في عز الشباب.
ولا تزال تثير الألم في نفوس الروس حتى الآن ولكن كيف حصلت هذه النهاية؟! يقال: ان أحد النبلاء الفرنسيين المقيمين في موسكو أغرم بزوجته وحاول مغازلتها، واعتبر بوشكين هذا العمل اهانة له أو انتقاصاً لشرفه فتحداه وطلبه للمبارزة وكانت تلك هي العادة السائدة آنذاك. وقد تمت المبارزة بالمسدسات لا بالسيوف كما كان يحصل في القرون الوسطى وهنا يكمن الطابع الوحشي لهذه العادة السخيفة التي انتهت من أوروبا الآن لحسن الحظ، ولكن للأسف فان بوشكين أخطأ منافسه في حين أن هذا الأخير لم يخطئه فأصاب منه مقتلاً ولكنه لم يمت الا بعد ثلاثة أيام من ذلك التاريخ وكانت فجيعة للأدب والثقافة والانسانية كلها.
وكان بوشكين أول كاتب روسي يعيش من مداد قلمه وعصارة فكره ونتاج ابداعه ولو جزئياً، كما كان قد بذل كل جهده لتنشيط الحياة الثقافية في روسيا بعد عودته من المنفى فقد رفع مستواها عن طريق كتابة العديد من المقالات النقدية في الصحف الكبرى. والواقع أن بوشكين أدهش عائلته منذ الطفولة بمقدرته على حفظ أكبر قدر ممكن من القصائد وترديدها عن ظهر قلب، كما أدهشهم بمدى سعة اطلاعه على الأدب الفرنسي وبخاصة مؤلفات موليير، وفولتير، وسواهما، ويبدو أنه كان نهماً للقراءة والمطالعة ولا يشبع من الروائع. ومن المؤكد أنه اطلع على قصائد اللورد بايرون وكذلك على أدب شكسبير.
وقد تفتحت موهبته الشعرية بشكل مبكر جداً فمنذ سن الخامسة عشرة نشرت له مجلة (رسول أوروبا) أولى قصائده، ومعلوم أنه دخل الى وزارة الشؤون الخارجية كموظف عام 1816 ولكن القيصر غضب عليه وفصله من الوظيفة ونفاه الى جنوب البلاد لبضع سنوات بسبب نشره لقصائد ثورية مضادة للسلطة. وهذا دليل على أنه كان يتميز بطبع متمرد يرفض الخضوع للاستبداد ويعيش الحرية فقد كان بامكانه أن يعيش مترفاً مدللاً من دون أي هموم أو متاعب لأنه ينتمي الى أعلى الطبقات الاجتماعية ولأن السلطة كانت مستعدة لفتح كل الأبواب أمامه ثم لأنه كان غنياً لا ينقصه شيء، ولكنه رفض كل هذه الاغراءات والتسهيلات واختار الطريق الصعب: طريق الشرف، والأدب، والدفاع عن المظلومين والمضطهدين وهنا تكمن عظمته وسبب المكانة الكبيرة التي استحقها داخل الآداب الروسية. كما أن تأثير اللورد بايرون قد انعكس على كتابه: سجين القوقاز (1821)، وهو يصف فيه التقاليد العريقة للشعب الشركسي الذي يسكن تلك الجبال الوعرة (جبال القوقاز).
وفي دواوينه الأخرى ظهر تأثره بالاسلام، ووصف مظاهره في منطقة (كريميا) التي نفي اليها لبضع سنوات كما ويظهر تأثره بالقرآن الكريم في بعض نصوصه الجميلة والأساسية. حيث استطاع الشاعر الروسي الأكثر حباً للشرق الاسلامي من أن يتمكن من نقل بعض المواضيع الانسانية العظيمة التي يزخر بها القرآن الكريم، ليطرحها شعراً على أبناء قومه بلغتهم، وبأسلوب أدبي شائق وسهل، كانت اللغة الروسية القديمة صعبة وشائكة الى حد كبير.
ويعد بوشكين أحد المتأثرين بالقرآن الكريم تأثراً حضارياً وروحياً، حيث كان بوشكين في فترة شبابه متأثراً بالاتجاه «الرومانتيكي» الى حد ما، ولكن اطلاعه على حياة الشعب الروسي من كثب، وتعرضه للقمع والاضطهاد... وتعرّفه الأفكار الثورية لبعض أصدقائه من المثقفين والعسكريين، دفعه الى اعادة النظر في العديد من آرائه الفكرية والاجتماعية، والبحث في الكثير من المصادر الانسانية الرصينة كي يستشف منها الطريق الصحيح الذي يقوده الى الخروج من أزمته الروحية... فكان القرآن الكريم من المصادر الأساسية التي درسها بوشكين في تلك الفترة الحرجة من حياته التي توجت بتحوله الى الواقعية، حيث درس بوشكين القرآن الكريم في ترجمته الروسية الصادرة سنة 1790م، من قبل فريو فكين نقلاً عن الترجمة الفرنسية، وصدرت بعد ذلك قصيدته الطويلة «قبسات من القرآن» المكونة من 174 شطراً في خريف سنة 1824م.
وهنا يجب علينا التوقف لمعرفة آراء انسان يدين بدين آخر غير الاسلام، اذ انه من الضروري القول ان التباعد الذي تفرضه على بوشكين ثقافته وتربيته وعقيدته جعل بعض آرائه مخالفة للفكر الاسلامي، ولكنها من الندرة والقلة بالنسبة لتلك التي تتفق والفكر الاسلامي، اضافة الى اعجابه بشخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم واحترامه الكبير لها، كذلك حبه للحضارة العربية والاسلامية وأدبها.
وقد قام بوشكين بتشذيب تلك اللغة وتبسيطها لتصبح سهلة مفهومة، لذلك فهو يعتبر واضع أسس اللغة الأدبية الروسية الحديثة، ولعل هذه النقطة هي احد الدوافع التي حدت به الى طرح مواضيع القرآن الكريم التي أخذها عن الترجمة القديمة فيقدمها شعراً الى عامة الناس ليتسنى لهم فهمها والاستفادة منها.
وكتب عنه الباحث الروسي سولوفي: يطرح بوشكين في هذه السلسلة الشعرية، وبشكل واقعي خصائص الحضارة العربية والاسلامية، ويحاول أن يقدم تصوراً موضوعياً عن القرآن الكريم وعن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كذلك حاول بوشكين في نتاجه الشعري هذا أن يبين مدى أثر لغة القرآن الكريم وأهميتها بالنسبة للمجتمع العربي آنذاك.
أما الصفوة المثقفة من الروس وروَّاد الحركة الوطنية، فقد صارت السيرة النبوية لهم نموذجاً للقدوة الحسنة الصابرة على الرسالة، والمجاهدة في سبيلها، ومن ذلك كلمات الأديب والثائر الديسمبري «تشاداييف» التي أكد فيها على عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثره في حركته الثورية... فيقول: «ان عظمة الرسول محمد الذي حمل لواء الدعوة الجديدة التي كان لظهورها الفضل في ذلك (الغليان الديني في الشرق)... والمحفز لنضالنا...».
فسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الأمي الذي تمكن بقوة الدعوة من أن يوحِّد شمل قبائل عابدي الأوثان، وأن يصنع منهم وبهم دولة تمتد شرقاً وغرباً.. وقد حازت اعجاب وانبهار أولئك الذين لا يتخذون الاسلام ديناً، ومنهم بوشكين الذي يأتي في مقدمة شعراء روسيا الذين استلهموا القرآن والسيرة النبوية، حيث تتبوأ قصيدتاه «قبسات من القرآن» و«الرسول» مكانة مهمة بين المؤلفات الأدبية الروسية المستوحاة من التراث الاسلامي والسيرة النبوية.
هذا وقد تناولت قصيدة «الرسول» التي كتبت في عام 1826م، المرحلة المبكرة من السيرة النبوية أي فترة تلقي الوحي، بينما تتناول قصائد «قبسات من القرآن» مراحل لاحقة.
حيث يستهل بوشكين قصيدة «الرسول» بمقطعين يلقيان الضوء في عجالة على ظروف الرسول قبل تلقي الوحي مباشرة، فالرسول المنتظر تميزه روح غنية... «يضنيها» التأمل في الكون والبحث عن حقيقة الوجود، ومن ثمَّ تجنح روحه المتأملة الى العزلة في الصحراء يؤرقها البحث عن اجابات شافية لأرق الفكر.
ويتخيل بوشكين صورة لجبريل بستة أجنحة، ولعل بوشكين استلهم صورة جبريل من الآية الأولى في سورة «فاطر».
ثم يصور التغير الذي يحدث مع الرسول بعد أن أوتي النبوة، اذ تكتشف أمامه أسرار الغيب الذي لا يدركه العاديون من البشر، فاثر ظهور جبريل للرسول يحدث معه التالي: «فأصغيت الى رعدة السماء، وتحليق الملائكة في الأعالي، وسريان حركة أغوار البحار، ونمو الكرامة النائية».
ثم بعد أن تتم عملية «التحصين» الروحية والجسدية للرسول، يتعين عليه أن ينهض كي يضطلع بأعباء الرسالة التي بعث من أجلها والتي سيرى نورها عبر «البحار والأراضي» ليخترق لهيبها «قلوب الناس»:
وناداني صوت الله
انهض يا رسول... وأبصر
لبهي ارادتي.
وجب البحار والأراضي
ألا يبدو المقطع السابق مستلهماً من معاني الآيات (1 2) من سورة المدثر: (يا أيها المدثر(1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3)).
ويبقى سؤال: لماذا اتجه بوشكين الى تمثيل شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم؟ ان الاجابة عن هذا السؤال تكمن في اعجاب بوشكين بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الاعجاب الذي يشهد عليه استلهامه مراحل مختلفة من السيرة النبوية في أكثر من قصيدة، وبخاصة في مجموعة قصائد «قبسات من القرآن»، وكأثر شاهد على عظمة الاسلام، وكبرهان دامغ على قدرة القيم القرآنية على عبور آفاق الزمان والمكان، والتغلغل في نفوس أناس لا يؤمنون بالاسلام.
ويبدو الاهتمام الكبير من النقد الروسي ثم السوفياتي بدراسة قصائد «قبسات من القرآن» متسقاً مع المكانة الفكرية والفنية التي تحتلها هذه القصائد بين مؤلفات بوشكين.
ويتكرر السؤال حول الأسباب التي حثت بوشكين على الاهتمام بالقرآن الكريم؟ تقول الناقدة لويبكوفا: «على امتداد مئة عام وأكثر حاول الباحثون في انتاج بوشكين أن يحددوا السبب الذي جذب بوشكين تجاه القرآن؟ وما الذي حفزه على كتابة القبسات، وهذا الاستفسار لا يخلو بالطبع من لهجة الدهشة والتعجب».
هذا وقد اختلف الباحثون في تحديد الأسباب التي أثارت اهتمام بوشكين بالقرآن، ونحاول، بداية أن نوجز أهم الآراء التي تناولت بالدراسة «قبسات من القرآن».
تقول الباحثة كاشنا ليفار: ان اهتمام بوشكين بالقرآن كان مرده أسباباً شخصية، كان من الضروري أن يشعر بوشكين تجاه القرآن باهتمام شخصي خاص، ويقول الناقد سلومينسكي: ان هناك توازناً بين التوثيقات المستلهمة من القرآن وملامح الظروف التاريخية الروسية.
أما الناقد ستراخوف فيقول: القرآن على ما يبدو قادر على التأثير بقوة على الناس وفي الوقت الحاضر تضع روح هذا الكتاب انتصارات كبيرة. ويرى الناقد الروسي براجينسكي: ان تأمل بوشكين في القرآن كان (فلسفياً)، فقد لجأ اليه من أجل الوعي بدروس التأريخ ولخدمة الواقع.
ويستهل بوشكين القصيدة الأولى باقتباس القسم القرآني المميز للعديد من الآيات القرآنية الكريمة (والشفع، والنجم)، ثم يلي هذا القسم مقطع يستلهم من سورة الضحى وصف معاناة الرسول حين فتر الوحي وأحزنه ذلك، وذلك كما في الآيات (1 2) (والضحى) (1) والليل اذا سجى (2) ما ودعك ربك وما قلى) (3).
«أقسم بالشفع والوتر
وأقسم بالسيف وبمعركة الحق
وأقسم بالنجم والصباح وأقسم بصلاة العشاء
لا، لم أودعك».
ثم يصور بوشكين في المقطع الثاني قصة خروج الرسول مهاجراً الى المدينة، وقد وردت القصة في الآية (40) من سورة التوبة.
ثم يعود لاستلهام سورة الضحى في ختام القصيدة:
(فأما اليتيم فلا تقهر (9).
أحب اليتامى، وقرآني
وبشر المخلوقات المهتزة.
وتعكس القصيدة الثانية تأثر بوشكين بالآيات القرآنية التي تدعو الى آداب الحجاب ونبذ التبرج، والتي تعلي من عفة زوجات الرسول ونزولهن عن الرغبة في التزين والحياة الدنيا مقابل البقاء مع الرسول.. وبخاصة الآيات الكريمة (32 33) من سورة الأحزاب: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا 32 وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)، وكذلك الآية (53) من سورة الأحزاب: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا أن يؤذن لكم الى طعام غير ناظرين اناه ولكن اذا دعيتم فادخلوا فاذا طعمتم فانتشروا ولا مستئنسين لحديث ان ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق).
ان بوشكين يؤسس على هذا المضمون صورته الشعرية في القصيدة على النحو التالي:
ايه يا زوجات الرسول الطاهرات
انكن تختلفن عن كل الزوجات
فحتى طيف الرذيلة مفزع لكن
في الظل العذب للسكينة
عشن في عفاف! فقد علق بكن
حجاب الشابة العذراء
حافظن على قلوب وفية
من أجل هناء الشرعيين والخجلى،
ونظرة الكفار الماكرة
لا تجعلنها تبصر وجوهكن
أما أنتم يا ضيوف محمد
وأنتم تتقاطرون على أمسياته
احذروا فبهرجة الدنيا
تكدر رسولنا
فهو لا يحب الثرثارين
وانحنوا في أدب
لزوجاته الشابات المحكومات بالعفة.
ويبدو استلهام بوشكين لمعاني هذه الآيات من سورة الأحزاب متجاوباً مع نفوره الشخصي من بهرجة النساء في طبقته الأرستقراطية وخروجهن عن الاحتشام، وافتقاد البعض منهن لمعنى الوفاء والأخلاق للزوج وللأسرة، كما تعكس انجذاب بوشكين تجاه النموذج الاسلامي في العفة والوفاء، وتعكس القصيدة الثالثة تأثر بوشكين بمعاني الآيات القرآنية التي تدعو الى التواضع واحترام كرامة الانسان بصرف النظر عن مكانته الاجتماعية، وكذلك الآيات التي تحض على الدعوة بالموعظة الحسنة، وأيضاً الآيات التي تحض على التفكير في دلائل القدرة الالهية وزوال متع الحياة الدنيا والتذكرة بأهوال يوم القيامة.
وفي القصيدة الخامسة تستوقف بوشكين الآية (35) من سورة النور: (الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة). فيكتب:
لقد أضاءت الشمس في الكون
وأضاءت أيضاً السماء والأرض
مثل نبتة كتان تمتلئ بالزيت
تضيء مصباح بلوري
صلِّ للخالق فهو القادر
فهو يحكم الريح في يوم قائظ
ويرسل السحب الى السماء
ويهب الأرض ظل الأشجار
انه الرحيم: قد كشف
لمحمد القرآن الساطع
فلننساب نحن أيضاً نحو النور
ولتسقط الغشاوة عن الأعين
وينطوي المقطع الأخير على دعوة الى الايمان بروح «القرآن الساطع» والى ضرورة الانغمار «بنوره»
الكريم.
ولو تصفحنا مجموعة مؤلفات بوشكين الشعرية لوجدنا أنه يشير الى الاسلام والمسلمين باحترام في العديد من قصائده، كذلك يذكر فلسطين في القصيدة الأخيرة ونعثر على اسم الفرات «مخيم عند الفرات» بالاضافة الى احترامه وتبجيله للقرآن الكريم وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي قصائد أخرى يتحدث بوشكين عن شعب الغجر الذي خالطه وتعرف عليه وأعجب به وبالتالي فقد كان منفتحاً على كافة التأثيرات الأدبية والفكرية والروحية، ولكنه وتحت تأثير الأدب الفرنسي لفولتير، نشر قصائد مضادة للدين، وهذا ما أثار عليه غضب القيصر والكنيسة الأرثوذكسية... حيث كان هذا العمل يعتبر من المحرمات آنذاك وتنقسم أعمال بوشكين الى ثلاثة أقسام: القصائد، المسرحيات الدرامية، النثر، ومن القصائد نذكر: أشعار، مجموعة قصائد، ذكريات الى تسارسكوي سيلو (1814)، الحرية (1817) الاعصار (1827)، الفرقان (1828)، صباح شتائي (1829)، السيل العارم (1829)، الغجر (1824).... الخ.
ومن المسرحيات الدرامية نذكر: بوريس غودونوف، مأساة تاريخية (1825)، ضيف بطرس (1830)، الفارس البخيل (1836) وفيها تأثر بشكسبير، موزار وساليري (1830)، الوليمة في زمن الطاعون (1830)، الخ. وأما فيما يخص كتاباته النثرية الرائعة فيمكن أن نذكر روايته غير المكتملة والتي نشرت تحت عنوان: عبد القيصر بطرس الأكبر (1827)، وبنت القبطان (1836)... الخ.
ويعترف جميع النقاد بأن بوشكين هو الذي أسس الأدب الروسي الجديد عن طريق تحريره من التبعية للآداب الأجنبية على الرغم من تأثره بها كلها، وبفضل هذا التأثر بالذات فقد كان يعرف كيف يتخلص من التأثر بالآخرين لكي يبدع طريقه أو أدبه الخاص، وكل الكتاب الكبار الذين جاؤوا من بعده كانوا من تلامذته. نذكر من بينهم غوغول، وديستويفسكي، تولستوي، ومعلوم ان ديستويفسكي ألقى خطاباً شهيراً في موسكو بمناسبة الاحتفال بذكراه، وقال بما معناه: لقد كان بوشكين كاتباً كونياً لأنه كان روسياً حقيقياً، وكان روسياً حقيقياً لأنه كان كاتباً كونياً. فالكونية ليست ضد الخصوصية على عكس ما يتوهم ضيّقو العقول وانما هي توسيع لها أو تكميل أو تعميق. وأضاف (بوشكين) لم يستطع أن يتوصل الى الكونية الا بعد أن هضم تراثيات الآداب الأخرى كالأدب الفرنسي، والانكليزي والعربي وصهرها كلها في بوتقة الأدب الروسي والشخصية الروسية.
والواقع أن بوشكين كان حالة فريدة من نوعها في تاريخ الآداب الكونية. فبامكاننا أن ندرس الآداب الفرنسية، والانكليزية، والألمانية، والايطالية، والاسبانية، من دون أن نشير الى كاتب واحد يكون قد أثر على كل من لحقوا به. أما بالنسبة للأدب الروسي فلا نستطيع. فكل من جاء بعد بوشكين مدين له بشيء ما.
ومن المستحيل أن نتحدث عن كبار الأدباء الروس الذين جاؤوا بعده من دون أن نذكره. ولا ريب في أنه كان يوجد أدب روسي قبل بوشكين ولكن الأدب الروسي الحديث ولد معه. هذه حقيقة لا جدال فيها. لقد كان بوشكين أنقى وأصفى شاعر روسي في زمنه، وهو الذي أسس المسرح الروسي الذي كان بدائياً أو فقيراً جداً قبل ظهوره. ثم يردف قائلاً: كما أنه هو الذي دشّن الرواية التاريخية في روسيا عندما كتب قصة (بنت القبطان) وكذلك كان أول من كتب الرواية الخيالية والشعر الشعبي الذي يسرد الحكايات العامية المنتشرة في تلك البلاد. ولقد كان ديستويفسكي يقول: كلنا خرجنا من معطف غوغول... ولكن ألم يكن معطف غوغول منسوجاً من قميص بوشكين؟! ألم يكن بوشكين هو الذي ألهم زميله الأصغر منه مواضيع رواياته وبخاصة روايته الشهيرة: (الأرواح المية)؟! وحتى تورغنييف تأثر به في العديد من كتاباته. نقول ذلك على الرغم من أنه عاش معظم حياته في الغرب. ولم يكن يتردد على روسيا الا من حين لحين. ويمكن القول ان واقعية ديستويفسكي المهووسة متأثرة به أيضاً... ورواية تولستوي الشهيرة (الحرب والسلام) استمدت أفكارها من قصة بوشكين (بنت القبطان)... وبالتالي فأهمية بوشكين ليست بحاجة الى برهان أو دليل بل أنها واضحة كالشمس الساطعة.
والواقع أن هذا الرجل الذي كان لاهثاً وراء الكتابة كان لاهثاً أيضاً وراء الحياة. فقد كان ينتقل من محبوبة الى أخرى، وكان مولعاً بلعب القمار، وثائراً ضد السلطة الامبراطورية للقيصر، وهذا ما أدى الى نفيه لبضع سنوات قبل أن يعود الى موسكو بعد موت القيصر السابق وصعود نيقولا الثاني على العرش. ثم وقع بعدئذ في حب أجمل فتاة في موسكو - وهي التي ستقوده الى حتفه.
ويمكن القول ان سقوط بوشكين وهو في عزّ الشباب ساهم في تشكيل أسطورته، فلو أنه عاش طويلاً لاضطر الى تكرار نفسه من خلال كتابات عديدة، ولكان الناس قد ملّوا منه. أما وقد مات وهو في أوج الابداع فانه ترك وراءه ذكرى عطرة، ذكرى لا تمحوها الليالي ولا الأيام. حتى حصل له ما حصل للشاعر الانكليزي الكبير (اللورد بايرون) الذي سقط في عزّ الشباب أيضاً دفاعاً عن اليونان وحريتها واستقلالها... وهكذا يموت الشعراء الكبار وهم في عمر الزهور.
تمثال بوشكين