15 أكتوبر 2008
12:00 ص
1241
لا يمكن لوم الوزير السابق سليمان فرنجية على تأخير المصالحة بين تياره من جهة وتيار «القوات اللبنانية» ممثلاً بالدكتور سمير جعجع من جهة أخرى. المصالحة قد تحصل متى كان هناك قبول سوري بها. ولذلك، ليس مستبعداً أن يكون هناك ردّ ايجابي اليوم أو غداً أو بعد غد... تعلّم فرنجية الحفيد من تجارب الماضي وتعلّم خصوصاً من التجارب التي مرّ فيها جده عندما كان رئيساً للجمهورية بين العامين 1970 و1976. في النهاية، لا يستطيع الحفيد الإقدام على خطوة جريئة من دون ضوء أخضر سوري كونه يعرف جيداً معنى عدم تنفيذ التعليمات التي ترده من دمشق. ثمة من يقول إن سليمان الحفيد يعرف أكثر من ذلك بكثير ويعرف خصوصاً أن مجزرة إهدن التي ذهب ضحيتها والده ووالدته وأفراد عائلته في الثالث عشر من يونيو من العام 1978، ما كانت لتحصل لولا غض النظر السوري عنها. كانت القوات السورية منتشرة وقتذاك في كل أنحاء لبنان، بما في ذلك منطقة الشمال. لم يكن مسموحاً لها فقط بأن تكون موجودة في المناطق التي حددتها إسرائيل التي وضعت في العام 1976 «الخطوط الحمر» للدخول العسكري السوري إلى لبنان في السنة الأخيرة من عهد الرئيس سليمان فرنجية. كيف كان ممكناً وصول مقاتلي «القوات اللبنانية» إلى إهدن بالسهولة التي وصلوا بها لولا نوع من التعامي السوري، أو لنقل نوعا من التواطؤ أملته الرغبة في إيجاد جرح عميق بين المسيحيين يولد شعوراً مستمراً بالحقد وبضرورة الأخذ بالثأر جيلاً بعد جيل. أكثر من ذلك، متى وضع المرء جانباً الحسابات الشخصية، لاكتشف أن سمير جعجع لم يشارك في الهجوم على مكان إقامة المرحوم طوني فرنجية وأفراد عائلته. كان في عداد المهاجمين، لكنه أصيب بجرح عن طريق الخطأ قبل الوصول إلى إهدن حيث ارتكبت المجزرة عناصر من «القوات» بقيادة شخص معروف جداً ما لبث أن تصالح معه سليمان الحفيد... بمجرد انتقال هذا الشخص إلى المعسكر السوري!
ما نشهده اليوم ليس جديداً. ممنوع أن تكون هناك مصالحة مسيحية - مسيحية، مثلما أنه مطلوب أن يكون هناك دائماً انقسام بين الدروز أنفسهم وبين السنة أنفسهم وبين الشيعة أنفسهم، حتى لو بدا حالياً أنهم موحدون ظاهراً. مطلوب أن يكون هناك حتى انقسام بين العلويين في لبنان... تلك هي السياسة السورية التقليدية تجاه لبنان، والتي يعرفها سليمان فرنجية الحفيد عن ظهر قلب، نثراً وشعراً، استظهاراً وقراءة. ولهذا السبب وليس لغيره تأتي الأعذار يومياً لخلق مبررات تفادياً لإتمام المصالحة. ولذلك أيضاً يستخدم النائب ميشال عون الذي لا يتقن سوى دور الأداة لدى الأدوات السورية في عملية عرقلة المصالحة.
ثمة حدث سأرويه بصفة كوني شاهداً عليه لإظهار كيف استطاع النظام السوري تطويع قسم من آل فرنجية منذ فترة طويلة والحد من أي قدرة لديهم على المناورة والتمتع بهامش معيّن من الحرية. إنها مجرد شهادة للتاريخ من شاب كان في الثالثة والعشرين من العمر في حينه. صحيح أن العلاقة بين عائلة الأسد وعائلة سليمان فرنجية الجدّ قديمة وتعود إلى منتصف الخمسينات من القرن الماضي. لكن الصحيح أيضاً هذه العلاقة دخلت في منعطف جديد قائم على طغيان وجود رئيس ومرؤوس وذلك منذ العام 1973. في مايو من ذلك العام، اشتبك الجيش اللبناني مع المقاتلين الفلسطينيين في أنحاء مختلفة من لبنان، بما في ذلك محيط منطقة الفاكهاني حيث كان مقر القيادات الفلسطينية في بيروت، وبينها مقر ياسر عرفات الذي انتقل مع غيره من القادة والمقاتلين إلى الأراضي اللبنانية من الأردن من دون الحصول حتى على حق المبيت في الأراضي السورية. توقفت المعارك بعد وساطات عربية. وكانت المفاجأة اتخاذ النظام السوري قراراً بإقفال الحدود مع لبنان رداً على تصدي الجيش لما كان يوصف بـ «التجاوزات الفلسطينية». كان الهدف الضغط على لبنان وإفهام رئيس جمهوريته أن المعادلة تغيّرت وأن القرارات الكبيرة المتعلقة بلبنان تتخذ في دمشق. بعد أسابيع عدة على إغلاق الحدود، وكان ذلك في الصيف، بدأت مفاوضات بين الجانبين من أجل إعادة فتح الحدود. أجريت المفاوضات في فندق «بارك أوتيل» في بلدة شتورا اللبنانية. مثل لبنان وزير الخارجية وقتذاك المرحوم فؤاد نفاع ومثل سورية السيد عبدالحليم خدام وكان لا يزال وزيرا للخارجية. في ختام اليوم الثاني من المفاوضات التي كنت أتولى تغطيتها بصفة كوني مندوبا لجريدة «النهار»، اقترب مني ضابط لبناني برتبة نقيب من جهاز الاستخبارات (المكتب الثاني) من مهماته المشاركة في حماية الفندق وتأمين سلامة الاتصالات بين الوفد اللبناني المفاوض والخارج. سأكتفي بإيراد الحرف الأول من اسم الضابط واسم عائلته، أي م. ص. قال لي الضابط، وهو من مدينة زحلة القريبة من شتورا، بالحرف الواحد: «انك تضيع وقتك هنا. المفاوضات انتهت بعيداً عن خدّام ونفّاع. المفاوضات الحقيقية حصلت ليل أمس بين طوني فرنجية (نجل الرئيس اللبناني ووالد سليمان الحفيد) ورفعت الأسد شقيق الرئيس السوري. اللقاء عقد سراً في فيلا الشيخ بطرس الخوري في شتورا. صار هناك اتفاق على كل شيء. سيعاد فتح الحدود قريباً وحصل السوريون على ما يريدون...».
كانت خلاصة ما قاله الضابط م. ص أن القرارات الكبيرة في لبنان تتخذ من الآن فصاعداً في دمشق، وهذا ما فهمه جيّداً رئيس الجمهورية الذي كان اسمه سليمان فرنجية. وهذا لا يزال عالقاً في ذهن حفيده. عندما كتبت الخبر لـ «النهار» لم يكن وقتذاك في الصحيفة من يستطيع فهم أهميته وأبعاده. ولذلك جرى طمسه لأسباب مرتبطة بالجهل والسطحية إلى حد كبير... وربما لأنني كنت في بداية حياتي الصحافية!
منذ ذلك الحدث، صيف العام 1973، لم يتغيّر شيء في لبنان بالنسبة إلى السياسة السورية أو بالنسبة إلى كيفية التعاطي مع سليمان فرنجية، من سليمان الجدّ... إلى سليمان الحفيد. لم يعد مجالاً لأي سوء فهم أو التباس. هل من يستغرب الآن لماذا لا مجال لمصالحة مسيحية - مسيحية ولماذا توضع العراقيل في وجه المصالحة عن طريق أدوات سورية أو أدوات للأدوات وصلت إلى حد تبرير اغتيال ضابط طيار في الجيش اللبناني كل ذنبه أنه حلّق فوق الأراضي اللبنانية؟
خيرالله خيرالله
كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن