الأماكن
إعادة إرسال موروثات باقية «2 من 2»



| جمال الغيطاني |
العين عليها حارس...!
من أشهر العبارات التي أسمعها منذ وعيي على الدنيا حتى الآن، تقال عندما يلحق أذى بالعين، كأن يصيبها جرح أو صدمة، أو مرض ما.
يقال أيضا «دا صابته عين» أو «دا عينه وحشة».
والمقصود هنا الحسد، فبعض الأشخاص لديهم القدرة على الحاق الأذى بالآخر بمجرد النظر، وهذا يقتضي التحوط له اما بالبعد عنه، أو اعداد حجاب يتضمن عملا سحريا لابعاد العيون الشريرة، لايزال الايمان بقدرة العين على بث طاقة ما موجودا، ليس فقط على المستوى الشعبي، انما في الطبقات الوسطى وعند بعض المثقفين أيضا، هذا موروث مصري قديم، أشهر عين في المعتقد المصري القديم هي حين حورس الابن «أورجات» التي تماثلت للشفاء بعد أن أصيبت، انها رمز انتصار النور على الظلمات، ولها دلالات تتعلق بدورة الحياة، ورمزية الاعداد بالنسبة لأجزائها الثمانية المتكونة منها، انها رمز التطلع الى الكون، وتقوم بدور في الحماية من الأمراض والأذى، واذا رسمت على جدران التوابيت فانها لا توفر الحماية فقط، انما بالرؤية للميت، بالنظر نيابة عنه الى أعماق الكون.
القمر كان يعتبر عينا لحورس، تلك العين التي اقتلعها ست في معركته معه، لقد عثر حورس على عينه بعد انتهاء المعركة وقام والده أوزير باعادة تركيبها وارجاعها الى مكانها، أول من رآه حورس بعد تركيب عينه والده، أوزير نفسه، للعين في مصر القديمة منزلة مهمة، انها الحامية من كل أذى، كما أنها القادرة على الحاق الأذى... لذلك أصبحت تميمة جديرة بأن توضع على المكان، وعلى الوقت أيضا، الشمس نفسها اعتبرت عين رع.
من العبارات التي سمعتها كثيرا ولاتزال تتردد «حوطتك من...» أي أحطتك بسياج غير مرئي يمنع عنك الأذى، هكذا كانت تقول جدتي وهي تشير بيدها حولي، منذ عامين زرت قريتي مسقط رأسي عندما جاءت سيدة مسنة من العائلة جلست في مواجهتي وراحت تدعو لي بالتوفيق، ثم قالت انها ستحوطني، وبدأت تتلو أدعية بينما تتحرك يدها حولي بشكل دائري، احاطة المخلوق بسياج غير مرئي بالكلمات والأدعية لحمايته، انشغال قديم، الحماية من الأخطار، من الأمراض، من اللصوص، من المفاجآت أشكال الحماية كثيرة، بدءا من رسم الشمس المجنحة على أبواب المعابد، والمحاط قرصها أيضا بالكوبرا من الناحيتين للحماية أيضا، وحتى الاله أنوبيس الذي يقف على شكل حيوان أسود يجمع ما بين صفات الذئب والكلب عند أبواب المقابر ليحمي مومياء المتوفى وحاجاته اللازمة له في الحياة الأخروية، اذا لم يوضع تمثاله يمكن رسمه، انه موجود في جميع مقابر وادي الملوك والملكات والفنانين والعمال بدير المدينة، الخرطوش نفسه الذي يحيط باسم الملك وألقابه هو رمز لحماية الاسم، تحويطة لمنع الأذى عنه، الخرطوش اعلان أيضا عن نسبة الشيء الى صاحبه، علامة على التملك، وقد انتقل هذا الى العمارة المصرية في العصر المملوكي، مرة أخرى أذكر الدائرة والأسبلة والمنشآت العامة، والقصور والبيوت، الدائرة اسمها «رفك» وتحمل اسم منشئ العمارة ولقبه وعبارة يتخذها شعارا، كأنه يقال مثلا: «الملك الأشرف عز نصره»، انها استمرارية الخرطوش القديم بشكل مغاير وصولا الى ما نعرفه في حياتنا الحاضرة بختم النسر، أي الختم الرسمي للدولة المصرية والذي يعتبر وضعه على أي ورقة تخص المعاملات أو أي وثيقة بمثابة الاعتماد النهائي.
الماء أصل الحياة، له المكانة الأسمى في مصر القديمة، لذلك اعتبر رمز التطهر في الطقوس الدينية، في كل معبد بحيرة مقدسة تنعكس على صفحتها صورة النجوم والشهب المارقة في الليالي التي تكون صافية معظم السنة، انتقل تقديس الماء الى المسيحية في طقس التعميد، والوضوء في الاسلام، الذي يعني التطهر قبل اقامة الصلاة والمثول بين يدي الخالق، على كل الجدران المرسومة في مصر القديمة، لابد أن نرى الماء في أشكال مختلفة، بدءا من أمواجه التي أصبحت أحد حروف الكتابة الدالة عليه، وحتى النهر الذي يمتد في ساعات الليل، أو في حقول يارو، وصورة الاله حابي الذي جمع بين الذكر والأنثى في جسده، يرسم أسفل الجدران في المعابد، هكذا في معبد سيتي الأول بأبيدوس، انه السطر الأول في الجدار، في الوجود، النهر الذي نشأت على ضفتيه الحياة، وفي القرآن الكريم نقرأ «وجعلنا من الماء كل شيء حي».
أعود الى مقبرة سيتي الأول، انني أعتبرها خزانة الرموز الباقية التي انتقلت الى الأديان الثلاثة، أتوقف دائما عند المدخل، ان في دخولي أو في خروجي، أتأمل الرسم البارز للتمساح الى يسار الداخل، انه أحد أشرس الحيوانات التي كانت تصل عبر النهر، اتخذ رمزا للمقاطعة السادسة عشرة في مصر القديمة، ورمزا للساعة السابعة في رحلة الشمس الليلية، وفي العالم الآخر، يقف التمساح «سوبك» الى جدار الميزان متأهبا لالتهام قلب من ثقلت موازينه وكثرت ذنوبه، ولن يكمل الرحلة الى البراءة، لم تعد التماسيح تصل مع النهر الى مصر بعد بناء سد أسوان الأول، والسد العالي، وفي القاهرة القديمة لاتزال ذاكرتي تحتفظ بأبواب بيوت بنيت في القرن العشرين، يوضع عند أعلاها تمساح صغير محنط، غير أن ذلك اختفى الآن.
التمساح في البداية، التمساح عند مدخل بيت، اذاً المقصود اعتباره تميمة للحماية من أفكار وأضرار غير مرئية.
غير أن ما يؤثر في تلك الحروف الهيروغليفية والمناظر التي لاتزال في دور التكوين، لاتزال ناقصة، أراها في مقبرتي سيتي وحور محب، يبدو أن كلا منهما توفي قبل اتمام منزله الأبدي لذلك ظلت من دون اكتمال، الناقص يثير الخيال أكثر من الكامل، تمثال رأس الملكة نفرتيتي في المتحف المصري غير المكتمل يمنحني من المعاني والأحاسيس أكثر مما أراه في تمثالها المكتمل المعروض في متحف برلين، لكن أمضيت الوقت أمام الخطوط السوداء التي تحدد الشكل والخطوط الحمراء التي تصمم، أتخيل الفنان الذي خط باللون الأسود، ومعلمه الذي صمم بالأحمر، أكاد أسترجع لحظة الفعل في عدم الاكتمال الذي أراه أمامي.
العلامة التي أثارت عندي رهبة غامضة وراحة وقربتني من التواصل مع أولئك الذين تنفسوا هذا قبلي بآلاف السنين، فتلك التي رأيتها في مقبرة الملك حور محب، على عمق، يتجاوز المئة والخمسين مترا تحت الأرض، في غرفة الدفن علامتان، الأولى تحدد الجنوب الشرقي، والثانية الشمال الغربي، في الرقعة الأخيرة، النهائية يجب أن يظل على علاقة بمسارات، باتجاهات الفلك، بالكون، فليس وجوده الحي أو الأبدي الا جزءا من تلك الحركة الأبدية، ولعل هذا المعنى يكمن في تلك النظرة التي لا نجدها الا في التماثيل المصرية والرسوم، أعني نظرة العينين التي لاتزال تحيرني حتى الآن، بقدر ما تبعث عندي من سكينة وصفاء، بقدر ما تقلقني بحثا عن معناها، لأتوقف عند تلك النظرة في تمثال الكاتب المصري، والتي أرى مثلها في عيون أولئك الذين أعرفهم وعشت عمري أسعى بينهم خاصة عند مواقيت الخلوة بالنفس.
العين عليها حارس...!
من أشهر العبارات التي أسمعها منذ وعيي على الدنيا حتى الآن، تقال عندما يلحق أذى بالعين، كأن يصيبها جرح أو صدمة، أو مرض ما.
يقال أيضا «دا صابته عين» أو «دا عينه وحشة».
والمقصود هنا الحسد، فبعض الأشخاص لديهم القدرة على الحاق الأذى بالآخر بمجرد النظر، وهذا يقتضي التحوط له اما بالبعد عنه، أو اعداد حجاب يتضمن عملا سحريا لابعاد العيون الشريرة، لايزال الايمان بقدرة العين على بث طاقة ما موجودا، ليس فقط على المستوى الشعبي، انما في الطبقات الوسطى وعند بعض المثقفين أيضا، هذا موروث مصري قديم، أشهر عين في المعتقد المصري القديم هي حين حورس الابن «أورجات» التي تماثلت للشفاء بعد أن أصيبت، انها رمز انتصار النور على الظلمات، ولها دلالات تتعلق بدورة الحياة، ورمزية الاعداد بالنسبة لأجزائها الثمانية المتكونة منها، انها رمز التطلع الى الكون، وتقوم بدور في الحماية من الأمراض والأذى، واذا رسمت على جدران التوابيت فانها لا توفر الحماية فقط، انما بالرؤية للميت، بالنظر نيابة عنه الى أعماق الكون.
القمر كان يعتبر عينا لحورس، تلك العين التي اقتلعها ست في معركته معه، لقد عثر حورس على عينه بعد انتهاء المعركة وقام والده أوزير باعادة تركيبها وارجاعها الى مكانها، أول من رآه حورس بعد تركيب عينه والده، أوزير نفسه، للعين في مصر القديمة منزلة مهمة، انها الحامية من كل أذى، كما أنها القادرة على الحاق الأذى... لذلك أصبحت تميمة جديرة بأن توضع على المكان، وعلى الوقت أيضا، الشمس نفسها اعتبرت عين رع.
من العبارات التي سمعتها كثيرا ولاتزال تتردد «حوطتك من...» أي أحطتك بسياج غير مرئي يمنع عنك الأذى، هكذا كانت تقول جدتي وهي تشير بيدها حولي، منذ عامين زرت قريتي مسقط رأسي عندما جاءت سيدة مسنة من العائلة جلست في مواجهتي وراحت تدعو لي بالتوفيق، ثم قالت انها ستحوطني، وبدأت تتلو أدعية بينما تتحرك يدها حولي بشكل دائري، احاطة المخلوق بسياج غير مرئي بالكلمات والأدعية لحمايته، انشغال قديم، الحماية من الأخطار، من الأمراض، من اللصوص، من المفاجآت أشكال الحماية كثيرة، بدءا من رسم الشمس المجنحة على أبواب المعابد، والمحاط قرصها أيضا بالكوبرا من الناحيتين للحماية أيضا، وحتى الاله أنوبيس الذي يقف على شكل حيوان أسود يجمع ما بين صفات الذئب والكلب عند أبواب المقابر ليحمي مومياء المتوفى وحاجاته اللازمة له في الحياة الأخروية، اذا لم يوضع تمثاله يمكن رسمه، انه موجود في جميع مقابر وادي الملوك والملكات والفنانين والعمال بدير المدينة، الخرطوش نفسه الذي يحيط باسم الملك وألقابه هو رمز لحماية الاسم، تحويطة لمنع الأذى عنه، الخرطوش اعلان أيضا عن نسبة الشيء الى صاحبه، علامة على التملك، وقد انتقل هذا الى العمارة المصرية في العصر المملوكي، مرة أخرى أذكر الدائرة والأسبلة والمنشآت العامة، والقصور والبيوت، الدائرة اسمها «رفك» وتحمل اسم منشئ العمارة ولقبه وعبارة يتخذها شعارا، كأنه يقال مثلا: «الملك الأشرف عز نصره»، انها استمرارية الخرطوش القديم بشكل مغاير وصولا الى ما نعرفه في حياتنا الحاضرة بختم النسر، أي الختم الرسمي للدولة المصرية والذي يعتبر وضعه على أي ورقة تخص المعاملات أو أي وثيقة بمثابة الاعتماد النهائي.
الماء أصل الحياة، له المكانة الأسمى في مصر القديمة، لذلك اعتبر رمز التطهر في الطقوس الدينية، في كل معبد بحيرة مقدسة تنعكس على صفحتها صورة النجوم والشهب المارقة في الليالي التي تكون صافية معظم السنة، انتقل تقديس الماء الى المسيحية في طقس التعميد، والوضوء في الاسلام، الذي يعني التطهر قبل اقامة الصلاة والمثول بين يدي الخالق، على كل الجدران المرسومة في مصر القديمة، لابد أن نرى الماء في أشكال مختلفة، بدءا من أمواجه التي أصبحت أحد حروف الكتابة الدالة عليه، وحتى النهر الذي يمتد في ساعات الليل، أو في حقول يارو، وصورة الاله حابي الذي جمع بين الذكر والأنثى في جسده، يرسم أسفل الجدران في المعابد، هكذا في معبد سيتي الأول بأبيدوس، انه السطر الأول في الجدار، في الوجود، النهر الذي نشأت على ضفتيه الحياة، وفي القرآن الكريم نقرأ «وجعلنا من الماء كل شيء حي».
أعود الى مقبرة سيتي الأول، انني أعتبرها خزانة الرموز الباقية التي انتقلت الى الأديان الثلاثة، أتوقف دائما عند المدخل، ان في دخولي أو في خروجي، أتأمل الرسم البارز للتمساح الى يسار الداخل، انه أحد أشرس الحيوانات التي كانت تصل عبر النهر، اتخذ رمزا للمقاطعة السادسة عشرة في مصر القديمة، ورمزا للساعة السابعة في رحلة الشمس الليلية، وفي العالم الآخر، يقف التمساح «سوبك» الى جدار الميزان متأهبا لالتهام قلب من ثقلت موازينه وكثرت ذنوبه، ولن يكمل الرحلة الى البراءة، لم تعد التماسيح تصل مع النهر الى مصر بعد بناء سد أسوان الأول، والسد العالي، وفي القاهرة القديمة لاتزال ذاكرتي تحتفظ بأبواب بيوت بنيت في القرن العشرين، يوضع عند أعلاها تمساح صغير محنط، غير أن ذلك اختفى الآن.
التمساح في البداية، التمساح عند مدخل بيت، اذاً المقصود اعتباره تميمة للحماية من أفكار وأضرار غير مرئية.
غير أن ما يؤثر في تلك الحروف الهيروغليفية والمناظر التي لاتزال في دور التكوين، لاتزال ناقصة، أراها في مقبرتي سيتي وحور محب، يبدو أن كلا منهما توفي قبل اتمام منزله الأبدي لذلك ظلت من دون اكتمال، الناقص يثير الخيال أكثر من الكامل، تمثال رأس الملكة نفرتيتي في المتحف المصري غير المكتمل يمنحني من المعاني والأحاسيس أكثر مما أراه في تمثالها المكتمل المعروض في متحف برلين، لكن أمضيت الوقت أمام الخطوط السوداء التي تحدد الشكل والخطوط الحمراء التي تصمم، أتخيل الفنان الذي خط باللون الأسود، ومعلمه الذي صمم بالأحمر، أكاد أسترجع لحظة الفعل في عدم الاكتمال الذي أراه أمامي.
العلامة التي أثارت عندي رهبة غامضة وراحة وقربتني من التواصل مع أولئك الذين تنفسوا هذا قبلي بآلاف السنين، فتلك التي رأيتها في مقبرة الملك حور محب، على عمق، يتجاوز المئة والخمسين مترا تحت الأرض، في غرفة الدفن علامتان، الأولى تحدد الجنوب الشرقي، والثانية الشمال الغربي، في الرقعة الأخيرة، النهائية يجب أن يظل على علاقة بمسارات، باتجاهات الفلك، بالكون، فليس وجوده الحي أو الأبدي الا جزءا من تلك الحركة الأبدية، ولعل هذا المعنى يكمن في تلك النظرة التي لا نجدها الا في التماثيل المصرية والرسوم، أعني نظرة العينين التي لاتزال تحيرني حتى الآن، بقدر ما تبعث عندي من سكينة وصفاء، بقدر ما تقلقني بحثا عن معناها، لأتوقف عند تلك النظرة في تمثال الكاتب المصري، والتي أرى مثلها في عيون أولئك الذين أعرفهم وعشت عمري أسعى بينهم خاصة عند مواقيت الخلوة بالنفس.