الأماكن

إعادة إرسال موروثات باقية ( 1 من 2 )

تصغير
تكبير
| جمال الغيطاني |
في الحياة المصرية الحالية ألفاظ ورموز قديمة لاتزال باقية، منها:
الأربعين: من الأرقام ذات المنزلة الخاصة عند المصريين «الأربعين» ويرتبط بالموت، عند مرور أربعين يوما على وفاة إنسان يذهب أهالي المرحوم لزيارة مقبرته، ويقال في المعتقد الشعبي الآن إن جسد المتوفى يتحلل تماما وآخر ما يسقط من العظام الأنف لذلك يكون يوما قاسيا على المتوفى.. في تلك الزيارة يصحب المصريون الخبز، رمز أوزير القديم لتوزيعه قربانا على روح الميت مع البلح وما تيسر من الطعام، وهناك من يقول إن الأصل في هذا الرقم المدة التي كان يستغرقها تحنيط الجسد.
العلاقة بالموتى تستمر بعد رحيلهم، بعد تمام الأسبوع الأول لابد من إحياء ذكرى الميت، بعد الأربعين، في كل عام، الزيارات مفضلة في الأعياد سواء كانت قبطية أو إسلامية، في ذروة الاحتفال يجب أن نتذكر الراحلين، وفي الأيام المقدسة التي تختلف من دين إلى آخر، وحتى الآن مازال المصريون على اختلاف مستوياتهم الثقافية يتعاملون مع موتاهم وكأنهم أحياء، فالابن إذا حقق إنجازا يذهب إلى مرقد والده أو الدته لينبئهما أو ليستأذنهما أو ليذكرهما بقراءة القرآن وتوزيع الصدقات «أي القرابين طبقا للمعتقد القديم».
وفي ستينات القرن الماضي كشف عالم الاجتماع المصري الدكتور سيد عويس في دراسة بديعة له عن استمرار المصريين في إرسال الرسائل إلى الأولياء الصالحين وأقطاب الصوفية، خصوصا الإمام الشافعي، إنه أحد الأئمة الأربعة للمذهب السني، وضريحه في مصر مشهور، وما يلفت نظري به القبة التي يعلوها قارب، القارب نراه أيضا فوق قبة خانقاة ومدرسة برقوق بصحراء المماليك.
لماذا القارب تحديدا في أعلى نقطة من القبة، عند الذروة؟
القارب رمز للعبور عند المصريين القدماء، وموضوعه هنا رمزي أيضا، إنه إبحار نحو السماوات العُلا، نحو اللانهائي، نشر الدكتور سيد عويس مجموعة من الرسائل التي يبعث بها المصريون إلى الإمام الشافعي المتوفى منذ ألف ومئتي عام، يشكون فيها أحوالهم، ويطلبون إنصافهم ممن ظلمهم.
لماذا الإمام الشافعي تحديدا؟
هنا نتوقف عند أحد ملامح الدين الشعبي، الذي استمرت عناصر قديمة من خلاله، مثل الموالد والطرق الصوفية، يوجد اعتقاد خصوصا في الريف بوجود محكمة باطنية، أي أنها لا توجد في العالم المحسوس، إنه الديوان، رئيسته هي السيدة زينب حفيدة النبي محمد وشقيقة سيدنا الحسين الذي استشهد من أجل الحق والعدالة ولإيمانه بفكره، لقد أصبح مكانه في هذه المحكمة التي تذكرنا بالمحكمة الأوزيرية عضوا لليسار، أما عضو اليمين فهو شقيقه الحسن، الثلاثة من آل بيت النبي محمد عليه الصلاة السلام، لكن قاضي الشريعة أو ممثل الاتهام فيها هو الإمام الشافعي، وقد عاش وتوفي بعد الأشقاء الثلاثة بحوالي قرنين من الزمان، كان فقيها وعالما، لقبه عند المصريين «قاضي الشريعة»، لهذا يرسل إليه المظاليم والشكاوى والقضايا للبت فيها ويناشده تحقيق العدل الذي يفتقدونه في حياتهم اليومية، فكرة الديوان أوحت لي بالمدخل أو المنطلق الرئيسي لكتاب التجليات الذي ترجم إلى الفرنسية.
من الرموز التي أراها على جدران وادي الملوك وتثير عندي العديد من التأملات «با» ألمح الرسم المعبر عنها، طائر له رأس آدمي، إنها أحد مكونات الوجود الإنساني، يمكن القول إنه يوازي مفهومنا للروح الآن، وعند الوفاة نقول «طلعت روحه» أي فارقت الروح الجسد، وهنا تقع التفرقة بين أجزاء الإنسان من خلال الموت، الحياة جمع، والموت تفرقة، خروج الروح جعل المصري القديم يتصورها على هيئة طائر أما الرأس فآدمي، يرسم غالبا على هيئة المتوفى، أذكر في طفولتي جلوسي مع أمي فوق سطح بيتنا بالقاهرة القديمة، كان ذلك بعد وفاة أمها بأسابيع، فجأة صمتت، أشارت إلى فراشة خضراء اللون، بعد أن طارت واختفت قالت: إنها روح جدتك جاءت لزيارتنا، الغريب أنني مررت بالحال نفسها بعد رحيل أمي فجأة، كنت أقف في الشرفة بضاحية حلوان عندما فوجئت بفراشة غريبة لم أر مثيلا لها من قبل، استقرت على مقربة مني، حدقت إليها طويلا، ورغم عقلانيتي، وعدم إيماني بالخرافات، فإنني لزمت مكاني، لم أتحرك حتى اختفائها، ثمة شيء غامض، داخلنا يتجاوز أي منطق.
ثمة وجود خفي مواز لوجود المخلوق، إنسان أو حيوان، يعبر المصريون القدماء عن هذه الفكرة بالقرين، وما أذكره جيدا أن جدتي كانت تسارع إذا سقطت فوق الأرض، تقول «اسم الله عليك وعلى خيتك ـ أختك ـ اللي أحسن منك».
السقوط يمكن أن يؤذي القرين الموجود حيث لا يمكن التعيين، ذكر اسم الله هنا يطرد الشياطين الشريرة، كما أنه يوفر نوعا من الحماية للطفل ولقرينه الذي تصفه الجدة بأنه أحسن لأنه خفي من وجود لا يدرك بالبصر، وما لا يدركه البصر يصبح متناهيا، لا محدودا، كل مرئي له مقابل في اللامرئي، انتقل هذا إلى المسيحية والإسلام في تصور الملاك الحارس.
مازلت أذكر صمت النساء عند مرور القط ليلا، إذا كن يتحدثن فلابد أن يتوقفن، خصوصا إذا كان لونه أسود، إنه امتداد خفي لتقديس الالهة بست التي كانت تصور بجسد إنساني ورأس القط، وحتى الآن عندما ينادي المصريون القط يقولون: بس بس، إنهم ينطقون الاسم القديم ولا يعلمون!
في مقبرة رمسيس السادس، أتوقف طويلا أمام رسم يمثل الخنزير باعتباره حيوانا محرما، كان المصريون يرون فيه حيوانا يفتقر إلى الطهر، إلى النقاء، لذلك حرموا أكله، انتقل هذا التحريم إلى الديانة اليهودية ثم إلى الدين الإسلامي.
خلال زيارتي من فقدتهم من أهلي، عند سعيي إلى المراقد الأبدية، كنت اشتري الزهور من الباعة الذين يقفون عند مداخل منطقة المدافن، كثيرا ما تساءلت: متى بدأ المصريون حمل الزهور ليضعوها على مراقد الأحباء الراحلين، إلى أن رأيت أقدم باقة ورد في تاريخ الإنسانية، تلك الموضوعة على مومياء توت عنخ آمون، والتي تم تحنيطها أيضا، لاتزال ماثلة، يمكن رؤية تفاصيلها، قسماتها، تحديد أنواعها، ترقد هناك في المتحف المصري في القاهرة.
من العبارات التي مازلت أسمعها في العامية المصرية «سخمطها» أي ألحق بها الأذى، أو «سخمطه» ألحق به شرا، هذا اللفظ ينسب إلى «سخمت» زوجة بتاح، أم نفرتوم، إنه ثالوث منف المقدس، سخمت إلهة من سماتها العنف وإثارة الزوابع.
من العبارات المتداولة التي أسمعها باستمرار «هو على راسه ريشة» أو بصيغة الخطاب «أنت على راسك ريشة»، تقال للإنسان الذي يشعر بذاته على نحو ما، الريشة هنا تعني ـ من دون أن يدري المتحدث - الالهة ماعت، التي كان تصور على أنها أنثى شابة تجلس وعلى رأسها ريشة، الريشة أحد تجلياتها، لذلك كانت توضع أحيانا على رأس حتحور أو إيزيس، ريشة ماعت رمز الصدق، العدالة، الحقيقة، ضياء الشمس، المعرفة، ميزان الكون، الضمير، أتوقف أمام الرسوم التي تصور الالهة ماعت، أحدق في الريشة، أستعيد الجملة التي ينطقها المصريون منذ آلاف السنين دلالة على معنى عميق، أساسي، كان يوما وتوارى غير أنه لم يختف.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي